منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    Titre    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    رئيس الجمهورية يجدّد في لقائه بوزيرة العدل، التاكيد على الدور التاريخي الموكول للقضاء لتطهير البلاد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    الكيان الصهيوني و"تيك توك".. عداوة قد تصل إلى الحظر    اليوم: عودة الهدوء بعد تقلّبات جوّية    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    ماذا يحدث في حركة الطيران بفرنسا ؟    شهداء وجرحى في قصف صهيوني على مدينة رفح جنوب قطاع غزة..#خبر_عاجل    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    "تيك توك" تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرّسالة الثّانية: المصالحة وجوانب الصّلح في الشّريعة

لقد بيّنت في الرّسالة الأولى ضمن سلسلة البناء، أنّ الإصلاح في تونس ضمن الأوضاع الحاليّة للمعارضة الهشّة وللشّارع التّونسيّ المترقّب صعب المنال، بل هو من قبيل الخداع، ومن ثمّ يجب ألاّ نتوقع أيّ تغيّر حقيقيّ إلاّ مع حدوث زلزال قويّ في الوجدان السّياسيّ للسّلطة أو في الشّارع التّونسيّ أو تغيّر هيكليّ عالميّ، أو أن يفعل الله عزّ وجلّ بقوّة أمره وبرحمته ما يزيح به الغمّة ويفرّج به الأزمة، والله على كلّ شيء قدير.
ولكن أريد أن أنبّه إلى أمور لا يجوز أن تمرّ دون تعليقات لا بدّ من بيانها بعد نشر حوار حديث مع الأستاذ الغنّوشي الذي قرأناه اليوم في موقع تونس انلاين بتاريخ 24 ماي 2007 ومفاده أنّ مسألة المصالحة هي "من اختصاص قادة الحركة داخل تونس وليس خارجها، وليكف الصائدون في الماء العكر، والعاملون على تعكير الأجواء في الخارج عن لعبتهم المكشوفة"، وهذا لعمري كلام وددت أن يتطهّر منه مثل هذا الرّجل الذي يقود حركة إسلاميّة، خاصّة وقد تقدّم به السّنّ. لأنّ مثل هذا الطّرح لا يزيد إلاّ في تسميم الأوضاع.
ووددت أيضا من الأستاذ الغنّوشي غفر الله له أن ينهج منهج الاعتدال في طرح المسائل، إذ لا يزال الأخ يغمس لسانه في الحفر في نوايا من خالفه، كما وددت أن لا ينسى كلّ الحقائق التي عبّر عن بعضها الأخ محمّد الهاشمي الحامدي في الرّدّ عليه، وأن يبيّن من وراء إفساد مشروع المصالحة إلى ما قبل انتخابات1989. أليس هو الأستاذ الغنّوشي نفسه الذي لا يحترم مؤسّسات الحركة التي حرصت من خلال قراراتها أن تحافظ على ذلك المناخ، غير أنّه بحكم عجلته وحماسته وعاطفته داس كلّ قراراتها ودفع بكلّ المناطق في كامل البلد إلى الدّخول في العمليّة الإنتخابيّة ممّا أفسد تلك "المصالحة" التي تحدّث عنها، ثمّ عالج تلك الأخطاء الكارثيّة بالخروج من البلد غاضبا وتَرَكنا فريسة للأمن، فلماذا يحرص الأستاذ في كلّ مناسبة أن يجعل السّلطة دائما هي الجانية عندما قال: "ولسنا نحن الذين نقضناه و إنما الطرف الآخر بسبب نتائج الانتخابات1989"...
لماذا لا تُذكر الحقيقة كاملة؟ أليس ذكرها ممّا يساهم في المصالحة؟ أليس التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له؟ فلماذا لا نرى منه خطابا ليّنا فلعلّه يساعد على نسيان الماضي الأليم ويدفع بالطّرف المعتدل في السّلطة أن ينهي هذه الأزمة التي طالت؟ أو لعلّ هذا الخطاب يبطل مكر الإستئصاليّين داخلها؟
إنّي لا أريد أن أدخل في منطق النّخبة التي تحرص دائما أن تسجّل أهدافا ضدّ السّلطة في كلّ مناسبة، ولو كان في كرة قدم، أو أن تسجّل لها وتطبّل لها وتزكّر بدعوى" الكلمة الطّيّبة"، وقد خلّطوا ذلك بقول الباطل وشهادة الزّور، أو ترتهن بآغتنام الفرص والإبتزاز كما أدمنت عليه حركة النّهضة في الدّاخل والخارج، وآنظر إلى الحوار الذي أشرت إليه آنفا ففيه من تزكية النّفس والإنتهاز والإبتزاز التي بدا عليها الأستاذ ممّا لا يوافقه عليه شهم أو مبتدئ في العمل السّياسيّ.
وعودة إلى مشروع المبادرة، فلقد بيّنت في الحلقة الأولى أنّ الإصلاح الحقيقيّ يجب أن يقوم على أساسين ثقيلين:
1 لا بدّ أن تكون قائمة على مرجعيّة وفاق بين كلّ التّونسيّين، أو على جمهورهم على الأقلّ، إذ يستبعد أن يجمع النّاس على وفاق، لأنّ كلّ عمليّة إصلاح وصلح ومصالحة لا تستند إلى مرجعيّة فكريّة وثقافيّة سنّّيّة معتدلة متّفق عليها تضبط أفكارهم وسلوكهم ومنهجهم، فسيبقون في دوّامات الأوهام والتّيه والضّلال و لا أبالغ إن قلت: إنّ في تونس وفاقا على إمامة مالك رحمه الله تعالى، تاريخا وحاضرا ومستقبلا.
2 أنّ عمليّة الإصلاح يجب أن تلامس كلّ نواحي الحياة، وأن تطول كلّ الأخطاء التي يرتكبها كلّ الأناسي في كلّ مستويات المجتمع حتّى لا تكون عمليّة الإصلاح جزئيّة وهشّة. والذين يعبدون وهم " الدّيمقراطيّة" ويراهنون عليه، قد تاهوا بحصر الإصلاح في السّلطة وفي جانبها السّياسيّ فحسب، لأنّهم أخطؤوا الطّريق حيث أدمنوا على التّبرير لعجزهم و التّحليل الكيدي بخصمهم، وهذا يجانب الحقّ والعدل، ثمّ هم لا يحترمون عقول الآخرين، لأنّ الحقوق لا تهبها السّلطة أبدا، خاصّة إذا كانت ذات كينونة أمنيّة، ولا تكون أي عمليّة الإصلاح بإجراء سياسيّ إلاّ إذا تحمّلت كلّ الأمّة مسؤوليّتها بكلّ اقتدار واصطفّت في المطالبة بحقوقها دون كلل أو ملل، ونسوا حقائق الشّرع الخالدة في التّغيير والإصلاح حيث ضبطها القرآن الكريم في خمس كلمات:" قل هو من عند أنفسكم".
إنّه إذا لم يهتد المصلحون إلى هذين الشّرطين فستكون مساعيهم في تباب، وجهودهم في ضلال، لأنّ دعوتهم الإصلاحيّة ستكون مغشوشة ذلك أنّها لم تؤسّس على أصل أصيل ولم ترتكن إلى ركن ثقيل. وشواهد ما يقع في الحلف الملغوم لمجموعة 18 أكتوبر إلاّ دليل على ذلك، ولأنّ تلك المجموعة فقدت الشّرطين المشار إليهما. فكيف يصلح الله تعالى بهم أمرا وهم فيما بينهم يفسدون؟
هذا ويجب أن يعلم أنّ السّلطة في تونس قد غالت في إحداث الضّرر بالشّعب وبكلّ ما يسمّى ب"الحركة الدّيمقراطيّة" وبكلّ المؤسّسات المدنيّة من جهة وفي الإنغلاق وكسر العظام من جهة أخرى.
وعلى العموم، فإنّ النّزاع والخصام والتّغاضب يوجب من الفرقة والشّرّ والفساد ما لا يمكن حصره، من أجل ذلك حثّ الشّارع العزيز على الصّلح والمصالحة والإصلاح وجعل الخوض في مسائلها من الأمور التي رضيها ربّنا ووعد عليها بالأجر العظيم، فقال سبحانه وتعالى:" لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيماً"1
قال الإمام الرّازي رحمه الله:"لا خير فيما يتناجى فيه النّاس ويخوضون فيه من الحديث إلاّ ما كان من أعمال الخير، ثمّ إنّه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصّدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين النّاس، وإنّما ذكر الله هذه الأقسام الثّلاثة وذلك لأنّ عمل الخير إمّا أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرّة، أمّا إيصال الخير فإمّا أن يكون من الخيرات الجسمانيّة وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله:"إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ" وإمّا أن يكون من الخيرات الرّوحانيّة وهو عبارة عن تكميل القوّة النّظريّة بالعلوم أو تكميل القوّة العمليّة بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله:" أَوْ إِصْلَٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ" فثبت أنّ مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية".
ومن أجل مزيد تأصيل مسألة الإصلاح، وبيان أنّها من مأمورات الشّرع العزيز، وأنّ هذا المطلب قد شمل كلّ نشاطات الإنسان، ولا يتناول المسألة السّياسيّة فحسب، تعال معي أخي القارئ نتابع بعضها وقد وردت فيها في القرآن الكريم.
لقد ورد لفظ المصالحة وما في مفرداتها في القرآن في 173 مرّة. جاءت بفعلها الثّلاثي صلح إلى كلّ مشتقّاتها: يصلح ويصلحا و أصلحوا و تصلحوا، ويصلحون، والصّلح والإصلاح، والصّالح والصّالحين والصّالحات، والمصلح والمصلحون...
الإصلاح والإيمان والتّوبة:
اشترط القرآن على التّائبين والرّاجعين إلى ربّهم تصحيح وضعهم الجديد بإصلاح الأعمال في صور متعدّدة منها:
1 الإصلاح بعد الإيمان: فقال تعالى:"وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ "2 .
2 الإصلاح بعد عمل السّوء بجهالة: لأنّ التّوبة لا بدّ أن تتبعها المداومة على العمل الصّالح، قال تعالى:"وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"3 .
3 إصلاح طبقة العلماء المنافقين أو هم فقهاء السّلطان وضعهم مع ربّهم ومع شعوبهم، هؤلاء الذين أفسدوا علينا ديننا بتحالفهم مع السّلطان، هؤلاء الذين " كتموا " الحقّ ولا يبرزون البيّنات ويسكتون عن الهدى ويخفونها لينحّوا الحقائق المنزّلة من لدن الله تعالى، لغرض من أغراض هذه الدنيا الكثيرة، يسكتون عن الحقّ وهم يعرفونه، ويكتمون أقوال اللّه البيّنة وهم على يقين منها، فهؤلاء تحوّلوا إلى ملعنة، وينصبّ عليهم اللّعن من كلّ مصدر، فهم يطاردون من كلّ مكان على صنيعهم الحقير ذلك، فكما أنّ العالم يستغفر له كلّ شيء حتّى الحوت في الماء والطّير في الهواء فهؤلاء بخلاف العلماء العاملين، يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاّعنون من كلّ صوب و من كلّ مكان، وفي الحديث "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار".
إنّ على هؤلاء أن يرجعوا عمّا كانوا فيه وأن يصلحوا ما أفسدوه ويبيّنوا للنّاس ما كتموه ويظهروا خلاف ما كانوا عليه، لأنّه لا يكفي في التّوبة عند علمائنا قول القائل قد تبت، حتّى يظهر منه خلاف ما كان عليه حاله الأوّل، فقال سبحانه:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ". 4
الإصلاح والتّحكيم للشّريعة:
وجاء معنى الإصلاح بقبول الحكم الشّرعيّ والتّسليم له باطنا وظاهرا، ومن لم يقبله ولم يرض به يُطعن في إيمانه، ولذلك أنزل الله عزّ وجلّ في من لم يرض بعمليّة الصّلح قرآنا يتلى فقال سبحانه وتعالى:" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" 5. فقد نزلت هذه الآية في شجار وقع بين مسلمين في مسألة سقي فأصلح الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بينهما فرفض أحدهما، أخرج الأئمة السّتّة عن عبد الله بن الزّبير قال:" خاصم الزّبير رجلا من الأنصار في شراج الحرّة فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري يا رسول الله إن كان ابن عمّتك فتلوّن وجهه ثمّ قال: اسق يا زبير ثمّ احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدار ثمّ أرسل الماء إلى جارك". واستوعب للزبير حقه وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة... وإذا كان القرآن قد نفي الإيمان عمّن لم يسلّم لأمر الرّسول في مسألة صلح واحدة تبدو بسيطة وفرعيّة وهي سقي زرع، فكيف بمن يرفض الإصلاح في إطار كلّ الشّريعة، دعك ممّن يرفضها بالكلّيّة.
قال الإمام القرطبي:"وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم ".
فقوله تعالى:" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ " يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدّسة أنّه لا يؤمن أحد حتّى يحكّم الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم في جميع الأمور و في كلّ شيء تشاجروا فيه و حصل فيه اختلاف ثم لا يكفي هذا التّحكيم حتّى ينتفي الحرج من قلوبهم فما حكم به فهو الحقّ الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا، إذ لا يقبل أبدا أن يحكّموه على وجه الإغماض، بل لا بدّ أن ينتفي الضّيق، ثم لا يكفي ذلك حتّى يسلّموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاّهر والباطن. فالتّحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتّسليم في مقام الإحسان. فمَن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدّين كلها. ولهذا قال سبحانه عزّ وجلّ بعد ذلك:" ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " أي إذا حكّموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا ممّا حكمت به وينقادون له في الظّاهر والباطن فيسلّمون لذلك تسليما كلّيّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به".
الإصلاح في الأحوال الشّخصيّة:
كما جاءت الدّعوة إلى الإصلاح في كلّ ما يصلح شؤون الأحوال الشّخصيّة للأمّة ومن ذلك:
1 في مسألة الأموال حال وصيّة الميّت: فقد أمر بإصلاح من غيّر الوصيّة بعدما سمعها من الميّت قبل موته، وعلم من موصٍ ميلا عن الحقّ في وصيّته على سبيل الخطإ أو العمد، فأصلح بين الأطراف بتغيير الوصيّة لتوافق الشّريعة فلا ذنب عليه. فقال سبحانه: "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ . فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ". 6
2 في حال الخلاف بين الزّوجين: إذا أدّى إلى الفراق بينهما، فعلى أهل الزّوجين أن يرسلا إليهما حَكَمين عدلين من كلا الطّرفين ليصلحا بينهما بما فيه الخير لهما، وبسبب رغبة الحكمين وسلامة مقصدهما وصفاء نيّتهما يوفّق الله عزّ وجلّ بين الزّوجين، قال تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا"7
3 في حال نفور الرّجل عن الزّوجة: أعطى الله عزّ وجلّ للمرأة الحقّ في أن تسقط عنه حقّها أو بعضه وله أن يقبل ذلك منها، ولا حرج عليهما في ذلك، فصلحهما على ترك بعض الحقّ خير من المفارقة بالكّلّيّة لأنّ الوفاق أحبّ إلى الله من الفراق، والصّلح خير من الطّلاق لأنّ هذا الأخير بغيض إليه سبحانه وتعالى: " وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا "8.
4 ردّ الزّوجة بعد طلاقها: ومن الإصلاح الذي عالجه القرآن الكريم، أنّه دعا الزّوج الذي طلّق زوجته أن يردّها ما دامت في عدّتها إذا كان مراده بردّها الإصلاح والخير وهذا في الرّجعيّات فقال تعالى: " وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا "9
الإصلاح في المسائل الإجتماعيّة:
ومن مسائل الإصلاح الماليّة الإجتماعيّة التي اعتنى بها القرآن الكريم،
1 مسألة أموال اليتامى: فقد أمر تعالى بتنمية أموالهم وبعدم تخليطها مع أموال المسلمين إلاّ إذا أكلوا جميعا وخلّطوا طعامهم وشرابهم بطعام وشراب المسلمين، لأنّهم إخوان في الدّين، قال سبحانه وتعالى:"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ"10. قوله تعالى:" وإن تخالطوهم فإخوانكم" أي وإن خلطتم طعامكم إلى طعامهم ... قالت عائشة رضي الله عنها:" إنّي لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة حتّى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. فقوله "قل إصلاح لهم خير" أي على حدة طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم لأنّهم إخوانكم في الدّين.11
الإصلاح في المسائل الجنائيّة القضائيّة: كما جاءت الدّعوة إلى الإصلاح في
1 المسألة القضائيّة الجنائيّة: حيث أمر السّارق بعد توبته أن يصلح في كلّ أعماله وأن يردّ المسروق إلى أصحابهم، حتّى يقبل الله تعالى توبته. فقال عزّ وجلّ: "فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "11
2 العفو في الدّية وترك صاحب الحقّ في القصاص: دعا اللّه عزّ وجلّ إلى العفو على المسيء وترك عقابه وأصلح الودّ بينه وبين المعفوّ عنه ابتغاء وجه الله فأجر عفوه ذلك على الله ولا يعني هذا أنّ الله لا يحبّ الظّالمين الذين يعتدون على النّاس. فقال عزّ وجلّ:" وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" 12
الإصلاح في المسألة السّياسيّة: وفي المسألة السّياسيّة أمر الشّرع العزيز ب:
1 الصّلح والمصالحة: فنهى سبحانه وتعالى عن المنازعة والمخاصمة وأمر بالمودّة وإصلاح الحال والأحوال فقال:"فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ"13
2 التّنازل عن السّلطة: ولقد صالح الحسن بن عليّ رضي الله عنهما وقد بايعه المسلمون وتولّى خلافتهم ستّة أشهر وأيّاماً ، فأعطاها معاوية رضي الله تعالى عنه وأوقف بذلك الفتنة العظيمة، وكان ذلك التّنازل شرفا له ورفعة، إذ يعدّ الإمام الحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنهما أوّل من داول سلميّا على السّلطة في التّاريخ تصديقا وتحقيقا لنبوّة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قال:" إنّ ابني هذا سيّد ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"14. ولا يزال بعض النّاس مع الأسف الشّديد من لا يعترف بشرعيّة إمامة معاوية، وقد تنازل صاحب الشّأن عن سلطته له، وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له ذلك التّنازل واستحسنه لما فيه من جمع كلمة المسلمين وحقن الدّماء وحفظ الأموال والأعراض.
3 الإصلاح حال المنازعة والقتال والبغي فقال سبحانه وتعالى:" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"15
ولقد أصلح النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بين بني عمرو بن عوف، كما أصلح بين أهل قباء. كما صالح صلى الله عليه وآله وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء. ومعلوم أنّ الله تعالى قد عدّ ذلك الصّلح فتحا رغم أنّ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم لم يروا فيها مصلحة.
4 رفض الاستجابة للفساد من أيّ جهة كانت، وخاصّة من رجال الحكم والسّياسة سواء كانوا في الحكم أم في غيره للتّأثير السّلبي العظيم لسلطة قرار الحاكم: ولذلك وصف القرآن الكريم داءهم ودواءهم، فمن كان داؤه الإفساد في الأرض، بعمل المعاصي، والدعوة إليها، إفسادا لا إصلاح فيه، فهذا لا يجوز أبدا طاعته ومتابعته للضّرر المحض والشّرّ المحقّق الذي يلحق بالأمّة، فقال تعالى:" "وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ . الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ"16. قال ابن كثير:" يعني رؤساءهم وكبراءهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق". فلا ينقاد المسلم لأمر العصاة الذين دأبوا على الإفساد في الأرض إفسادا لا صلاح فيه".
وأمر المؤمنين بعدم الإفساد في الأرض عامّة وعند صلاحها خاصّة فقال عزّ وجلّ:"وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" 17
ولأنّ المؤمن مصلح في كلّ الأحوال، فلا يجوز له أن يتبع المفسدين على الإطلاق، قال تعالى على لسان موسى عليه السلام:" وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ"18.
كما بيّن سبحانه وتعالى و كتب أنّ الخاتمة تكون لعباده الصّالحين، فقال عزّ من قائل: " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ "19 وعليه فلا يفرح ولا يبطر من أوتي سلطة وثروة ولم ينتم إلى صفّ الصّالحين والمصلحين، فما الذي عندهم إلاّ استدراج ومكر وعذاب يحلّ بهم متى شاء الله عزّ وجلّ،قال تعالى :" فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ"20.
الإصلاح في المسألة الحربيّة:
وإذا كان من أعظم مقاصد الصّلح تحقيق السّلم والأمن، وإذا حرّضت الشّريعة الغرّاء عليه وقت السّلم، فهو لها أرجى في مواطن الحرب، قال تعالى:" وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"21. آنظر الحديث رقم 3051 في سنن أبي داود فقد جعل الصّلح جزءا من الحرب. ولذلك فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض خيبر صلحا كما فتح بعضها عنوة. وجعل الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بابا في كتاب الشّروط سمّاه: الشّروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشّروط.
والمقام لا يسمح بالإتيان على جميع الآيات التي تأمر المسلمين بالاحتكام إلى الصلح، وتدعوهم إليه، لكن يكفي ما أشرنا إليه من أنّ الإصلاح شمل جميع جوانب الحياة بما فيها التّوبة و الأحوال الشّخصيّة والعقوبات والحرب والتّعامل المالي والتّنازل عن السّلطة وإلى غير ذلك من أمور لا يمكن حصرها إن تتبّعنا كلّ النّصوص التي وردت في ذلك المعنى.
ولقد تناول أهل الحديث والسّيرة العطرة مسألة الصّلح وآهتمّوا به، وحتّى لا نطيل عليك من عناء هذا البحث اسمح لي أخي القارئ اسمح لي أن نقف و نقتصر على كتاب واحد في صحيح الإمام البخاري سمّاه: "كتاب الصّلح"، بوّب فيه أبوابا عديدة منها:
1 باب ما جاء في الإصلاح بين النّاس: حيث أصلح النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بين بني عمرو بن عوف ، كما أصلح بين أهل قباء. 22
2 باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصّلح مردود. لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ".
3 باب الصّلح مع المشركين ويعدّ هذا من باب الصّلح السّياسي مع المحاربين حيث صالح النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء على أن من أتاه من المشركين رده إليهم ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه"23.
4 باب الصّلح في الدّية، بمعنى أن يعفو صاحب الحقّ في القصاص.
5 باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم: واستند رحمه الله تعالى إلى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:"كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة"24.
6 باب الصّلح بين الغرماء وأصحاب الميراث والمجازفة.
7 باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال.
8 كما جعل في كتاب الشّروط بابا سمّاه: الشّروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشّروط.
وعلى كلّ حال لا أريد أن أزجّ بك أخي القارئ في مباحث تجدها في مظانّها، ولا أريد أن أفصّل الأمر، وما ذكرت في كتاب الإمام البخاري وحده يكفي، ولكنّي أردت أن أنبّه إلى أمر مهمّ وهو: أنّ مسألة الصّلح والمصالحة والإصلاح، ممّا ندب إليه الشّرع العزيز، بل جعله من أعظم الأعمال الصّالحة الواجبة على كلّ مسلم، حتّى أنّ أعضاءه ومفاصله لتطالبه بذلك الأمر المهمّ فجر كلّ يوم "كلّ سلامي من النّاس عليه صدقة كلّ يوم تطلع فيه الشّمس يعدل بين النّاس صدقة". وقد تبيّن لك أنّ عدم الامتثال للإصلاح من مواطن الطّعون في عقيدة المؤمن25، ومن هنا أمر الشّارع العزيز أن نقاتل من بغى ورفع السّلاح ورفض الإصلاح 26.
ويكفي أن لخّص النّبيّ شعيب عليه السّلام دعوته أنّها دعوة إصلاحيّة فقال القرآن مخبرا عنه:" إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "27.
فالذي تقرّر أنّ الصّلح والمصالحة والإصلاح، تنال كلّ حياة المسلم، وتمسح كلّ نشاطاته، وهو أمر مندوب إليه، بل قد يصل إلى الوجوب و سيّدا في مسائل النّزاع والإختلاف في كلّ شيء يقع التّداعي فيه بين المسلمين مادام لا يحلّ حرامًا، ولا يحرّم حلالا للحديث "الصّلح جائز بين المسلمين" 28 زاد أحمد " إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرم حلالا". ورواه التّرمذي كاملا " الصُّلْح جَائِز بَيْن الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا" 29، ويكفي أن جعل الإصلاح بأفضل من درجة نوافل الصّلاة والصّيام والصّدقة " ألا أنبّؤكم بدرجة أفضل من الصّلاة والصّيام والصّدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال:" إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة "30.
لقد حرصت من خلال هذه "الفسحة" القصيرة الممتعة في معاني الإصلاح ومجالاته في الكتاب العزيز وصحيح البخاري لأبيّن بكلّ جلاء أنّ المضمون الحقيقيّ للإصلاح الذي أدعو إليه هو عين ما يطلبه الكتاب والسّنّة، وأنّي لم أستجب في طرحي لهذه المبادرة، إلاّ لنداءات الشّرع العزيز، لأنّي لا أثق أبدا في دعوات الإصلاح التي تأتي من الغزاة، فهي زيادة على أنّها موجة عابرة، و"موضة" ساخرة، فهي كذلك ملغومة بشروط المستعمر وغطرسته من خلال فرض مفاهيمه ومضامينه ومجالاته و شروطه، من أجل الهدم المنهجي للإسلام، إذ كيف نثق فيمن أفسد علينا منذ زمن بعيد محاولات الإصلاح والتّغيير في بلادنا الإسلاميّة الشّاسعة، بل لقد نجّست تلك القوى مصطلح الإصلاح، فسعيت أن أطهّرها بتطهير الشّرع العزيز لها.
إنّ دعوة الغزاة للإصلاح إنطلقت في إطار ما يسمّى الحرب على الإرهاب دون ضبط للمدلول، حتّى يضربون كلّ معنى من معاني المقاومة ولو في أدنى معانيها من فهم سياديّ للدّين وآلتزام به، حتّى عدّت حلقات حفظ القرآن الكريم والحجاب تطرّفا ومادّة أساسيّة للإرهاب. لقد أفسدت أمريكا الإصلاح مقالا وحالا، فآنظر إلى نموذج إصلاحها في العراق وأفغانستان والصّومال.
إنّ الإصلاح الحقيقيّ لا بدّ أن تكون منطلقاته ومرجعيّاته وطنيّة بمعنى أن لا يفرض من الخارج وأن تكون مرجعيّته وطنيّة، وإنّ أعظم قيم وطنيّة هذا البلد الإسلام والعروبة.!!!!
إنّّه لا يكتب نجاح لأيّ دعوة إلى الإصلاح ما لم تكن نابعة من إحساس عميق بالحاجة إليه، وبالعمل له وجمع كلّ إمكانيّات البلد من أجل إنجاز إصلاح حقيقي وشامل لحال الأمة حتّى تحقّق مشروعها الحضاري الشّاهد والمنشود.
أتى هذا المقال من تونس المسلمة
1 النّساء:114.
2 الأنعام 48.
3 الأنعام 54.
4 البقرة 159 160.
5 النّساء 65.
6 البقرة 180 182
7 النّساء35
8 النّساء 128
9 البقرة 228.
10 البقرة 220
11 انظر تفسير ابن كثير للآية...
12 المائدة39.
13 الشّورى 40
14 البخاري رقم 2553
15 الحجرات 9..
16 الشّعراء 151 152.
17 الأعراف 85 في أكثر من آية .
18 الأعراف 142.
19 الأنبياء105
20 الأنعام44.
21 الأنفال 61
22 البخاري رقم 2544
23 البخاري حديث رقم 2557.
24 البخاري رقم 2560.
25 آنظر إلى آية 65 من سورة النّساء
26 آنظر إلى آية 14 من سورة الحجرات.
27 هود 88
28 أبو داود حيث رقم 3120
29 رواه التّرمذي وقال: حديث حسن صحيح.
30 رواه البخاري في الأدب المفرد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.