مند بروز الهمّ البنكي الإسلامي في بداية هذا القرن وانطلاق أول تجربة صيرفية له في مصر سنة 1963 , كان التطلّع التّنموي و تأثيرات التقنيات المصرفية الحديثة على عملية النهوض الاجتماعي، إحدى الأسباب المطروحة لطرق الفكر الإسلامي مجال التّنظير والتطبيق البنكي[ ] [1]. ولقد ساهم التقاء البعد الاجتماعي بالبعد الاقتصادي في الفكر الإسلامي، في التّيسير النظري لتوجّه البنك وأهليته لدعم المسار التّنموي وتحقيق أهدافه الاجتماعية والاقتصادية. فسعى النّموذج النّظري بداية إلى تأكيد هذا المنحى التّنموي عبر رفضه للتعامل الربوي واعتباره غير كاف للاستجابة لمتطلّبات النّمو وتطلّعات شرائح عديدة من المجتمع المسلم نحو حياة أفضل. فكانت المرتكزات الشّرعية المعلنة لتنظيم عمل المصارف الإسلامية تحوم حول إلغاء الفائدة ورفض استخدام القروض كوسيلة تعبئة والأخذ بقاعدة الغنم بالغرم والمشاركة في الأرباح والخسارة وجواز العمولة مقابل الخدمات المصرفيّة واعتبار الربح وقاية لرأس المال. فتمّ اقتراح آلية جديدة للادّخار والاستثمار مبنيّة على عقود المشاركة والمضاربة وعقود البيع والتأجير التي يمكن لها أن ترفع الضّيم عن المستثمر وأن تطمئن المدّخر المسلم وتشجّعه على تفعيل أمواله وعدم كنزها وسحبها من الدّورة الاقتصادية لغياب الحليّة المنشودة لبعضهم أو لضعف ادّخاراتهم للبعض الآخر. ويمكن تقصّي هذا الجانب التّنموي المنشود، في المجال النّظري في المحطات التالية : *1 من خلال الآمال المعقودة على التوجّه الاجتماعي للبنك ووسائله الاستثمارية، والأهداف المبثوثة في طيّات النظم الأساسية للبنوك الإسلامية من مواكبة ومؤازرة للتّنمية الاقتصادية؛ وذلك عبر إنشاء حسابات خاصة لحرفائها لتشجيعهم على دفع زكاة أموالهم والتكفل بمصارفها مباشرة أو بإحداث مشاريع للحرفيين منهم ومدِّهم بالرأس المال اللازم لانبعاثها. ولا يخفى الدور الاجتماعي للزكاة بما تفرزه من إعادة لتوزيع الدخل ومكافحة الفقر وتقليل التفاوت الطبقي. كما يتكفل البنك بتقديم القروض الحسنة للمحتاجين و المنتجين المعوزين، وهي تساهم بالتالي في زيادة الفضاء الإنتاجي وتنميته وتطعيمه بأطراف جديدة، رغم محدودية هذه القروض. *2 بما يمكن أن تُحدثه النظرية الإسلامية للصيرفة في مجال الاقتصاد الكلي من زيادة الادخار وكبت الاستهلاك التفاخري في المجتمع؛ ومن تقزيم التضخم عبر آليات الزكاة التي تساهم البنوك الإسلامية في استخلاصها وتحويلها إلى استثمارات حقيقية مما يولد تحجيما للكتلة النقدية وتخفيفا للضغوط التضخمية. كما يُنتظر أن يؤدي التعامل بدون فائدة على زيادة الإستقرار الإقتصادي، حيث أن توزيع المخاطر بين البنك وحرفائه في تحمل الربح والخسارة يجعله لا يضمن القيمة الإسمية للودائع الإستثمارية، على خلاف الجهاز التقليدي. مما يمكنه من تحمل الصدمات والأزمات الإقتصادية الناجمة من حالة إنكماش و تراجع للنشاط الإقتصادي، حيث تبقى قيمة الموجودات مساوية لقيمة المطلوبات. *3 كما يتجلّى هذا البعد خاصة في العقود الفقهيّة القديمة وبلورتها إلى وسائل استثماريّة حديثة. ويتمثل هدف هذه الدراسة المتواضع في تبيان البعد التنموي لللإستثمار الإسلامي عبرعقوده المالية، نظريا وعمليا ومدى التزام المصارف الإسلامية بهذا الهاجس في معاملاتها التمويلية. الصيغ النّظرية للاستثمار وبعدها التنموي لقد وجدت المصارف الإسلامية في فقه المعاملات العديد من المبادئ الأساسية للإستثمارالتي حملتها العقود المالية القديمة، والتي حوت بعدا تنمويا واجتماعيا ساهم نسبيا في تطوير وتيسير الحياة الإقتصادية للمجتمع الإسلامي، وخاصة في العصر الوسيط حيث أثبتت هذه العقود دورها الهام في تنظيم الائتمان في التجارة وبلورة النشاط الإقتصادي. ويمكن استعراض هذه الصيغ واستجلاء هذا البعد التنموي في ظل الواقع المعاصر كما يلي: 1* المضاربة والمشاركة : تعتبر المضاربة تأليفا بين عنصري الإنتاج؛ وشركة بين العمل والمال. عرّفها المالكيّة " بأن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل من الربح بينهما"[ ] [2]. وتكون الوضيعة (الخسارة) على رأس المال، ويكفي العامل خسارة جهده. أمّا المشاركة فقد عرفها الأحناف بأنّها " عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح ". يكون الربح بينهم حسب الاتفاق، وتكون الخسارة بنسبة مساهمة كل طرف. ويعتبر التمويل بالمضاربة والمشاركة من أبرز ما جادت به النظرية الإسلامية وتميزت به عن النظام المصرفي التقليدي بالتوزيع العادل بين رأس المال والجهد البشري. وهي صيغة استثمارية رائدة تمثّل البديل الشرعي لعمليات البنوك العاديّة وفق قاعدة الغنم بالغرم. وتحمل هذه الصيغ إمكانيات تمويلية كبيرة للتنمية إذ أنها تناسب المشاريع الطويلة المدى والمتوسطة خاصّة، وتستطيع أن تكون دافعا للمبادرة والتجديد والابتكار،وحافزا للباعثين والحرفيّين والشركات المتوسطة و الصغيرة التي تتعرّض غالبا إلى نقص في التمويل في بداية مشوارها أو أثناء نموّها وتضخّمها. وهي صيغ تصلح لكلّ القطاعات الاقتصادية، المتطور منها والمتخلف. كما من شأن رأس المال المشارك أو المضارب الذي يمكن للبنك الإسلامي عرضه، أن يحرّر المستثمرين من العلاقة الجائرة التي تربطهم مع البنك التقليدي في حالة القرض الربوي، ويدفع إلى تقاسم المخاطر و تبنّي المشروع من المموّل و الباعث على حدّ السواء، ممّا يجعلهما أكثر حرصا على نجاحه. ومن أجل المزيد من تحرير المبادرة الفردية وتحمّل المسؤولية، وتأكيدا لدور البنك كوسيط مالي و مساهم فعّال في تنمية المجتمع وإثراءه، اقترحت النظرية المشاركة المتناقصة التي تجعل للشريك الحق في أن يحلّ محلّ البنك في ملكية المشروع بعد أن يتمكّن هذا الأخير من استرداد تمويله. ويعتبر هذا النوع أحسن بديل للقروض الطويلة الأجل في النظام المصرفي التقليدي. 2* المرابحة : تعتبر من بيوع الأمانة في فقه المعاملات، حيث يتمّ الاتّفاق بين البائع والمشتري على ثمن سلعة معيّنة مع بيان ثمنها الأصلي، ممّا يمكّن البائع من الحصول على ربح معلوم و متفق عليه. وقد استطاعت النظرية تطوير هذه الصيغة رغم بعض المصاعب الشرعية واقترحت ما سمّي لاحقا ببيع المرابحة للآمر بالشراء، وهو عقد يجمع بين العميل الواعد بشراء السلعة عندما يقع توفيرها وبين المصرف الذي يقوم بشرائها وتملّكها ثم بيعها مرابحة إلى حريفه. وتبدو إمكانية التمويل بهذه الصيغة كبيرة وخاصة في التجارة القصيرة الأجل مع أن بعدها التنموي لا يزال محدودا غير أن تنزيل هذه الصيغة في مجالات الزراعة والصناعة يبقى ممكنا ومطلوبا رغم وجود صيغ أخرى أكثر تناسبا. 3* الإيجار: أجمله الحنابلة تعريفا "هو عقد على منفعة مباحة معلومة مدة معلومة من عين معلومة أو موصوفة الذّمة أو عمل بعوض معلوم "[ ] [3]. وقد شرعت لحاجة الناس إليهم " فلو لم يشرع الإجارة مع امتساس الحاجة إليها لم يجد العبد لدفع هذه الحاجة سبيلا"[ ] [4]. وقد اهتمّت مجلة الأحكام العدلية بهذا العقد وسخّرت له 93 بندا غير أنها اقتصرت على العقارات السكنيّة أو الفلاحية أو إيجار اليد العاملة، وغاب إيجار التّجهيزات. وتظهر الإمكانيات التمويلية لهذا العقد في المدى المتوسط للمنشآت الصغيرة والمتوسطة التي تعجز ماليتها على الاستجابة لكلّ مراحل نموّ المنشأة خاصة في بداية نشاطها أو عند استبدال تجهيزااتها نتيجة ما يفرضه التقدم التقني والصناعي من مواجهة قانون التنافس في السوق . وقد بلورت النظرية هذا العقد مقتربة من المفهوم الانقليزي للإيجار(LEASING) " ايجارة واقتناء " حيث بحصل العميل على إمكانية تملك العين في نهاية مدة التأجير وهذا يجعل له الخيار في اقتنائها نهائيا إذا رأى تواصل فاعليتها ومردودها الإقتصادي، أو رفضها وتجاوزها إذا رأى عكس ذلك. وهي تساعد على زيادة وتنويع وسائل الإنتاج وتناسبها مع الدورة الاقتصادية وطلبات السوق. كما تُمكِّن الإجارة البنك من عائدات مرتفعة مقارنة بصيغ التمويل الأخرى مع ضمان استثماره حيث يحتفظ بملكية الموجودات. هوامش : [1] لا يخفى على أحد أن الجانب الشرعي و البحث عن الحلية في إدارة المال إدخارا واستثمارا , شكلت السبب الرئيسي و الطبيعي للتجربة البنكية الإسلامية. [2] الكاندهلوي محمد زكرياء " أوجز المسالك إلى موطأ مالك " ج 11 ص 4000 في منذ قحف " مفهوم التمويل في الإقتصاد الإسلامي " البنك الإسلامي التنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والندريب جدة 1991 ص : 16 . [3] البهرتي، منصور بن يونس "شرح منتهى الإرادات " في "عقد الإجارة مصدر من مصادر التمويل الإسلامية " عبد الوهاب إبراهيم أبو سلمان البنك الإسلامي للتنمية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب جدة 1992 ص 18 . [4] القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" ط2 بيروت: دار إحياء التراث العربي 1972 ج13 ص 271 في عبد الوهاب إبراهيم مرجع سابق ص 12 . أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي دكتور خالد الطراولي-9 جوان 2007 . يتبع