بالاستناد إلى الأرقام الرسمية، فإن عدد الجمعيات في تونس يبلغ أكثر من 7000 جمعية، الشيء الذي جعل الدولة تخصص يوما سنويا تطلق عليه اليوم الوطني للجمعيات. وبصرف النظر عن مدى فعالية مثل هذا العدد الضخم، حيث أنه يبقى على الأقل في المستوى الدلالي الأول، ملمحا من ملامح بناء المجتمع المدني، فإن ما يعنينا بالأساس في هذا المقال، الخبر الذي تم تداوله داخل تونس وخارجها، حول تأسيس جمعية تونسية للدفاع عن العلمانية. وإذا كان تأسيس آلاف الجمعيات في تونس، قد مر مرور الكرام ومن دون جدل يذكر، فإن الأمر في هذه المرة بدا مختلفا، إذ وجد الكثيرون صعوبة في هضم هكذا جمعية، رغم أنها لم تتحصل بعد على التأشيرة القانونية. ولعل الأسئلة التي تتبادر الى الذهن هي: هل أن العلمانية مهددة في تونس، الشيء الذي يستوجب الدفاع عنها. في البداية لا بد من الإشارة إلى أن هذه المبادرة تحمل إمضاء عدد من المثقفين والمثقفات ورجال ونساء القانون والجامعيين والجامعيات التونسيين. وقد قاموا بنشر النص التأسيسي الخاص بمبادرة تأسيس الجمعية الثقافية التونسية للدفاع عن العلمانية في أكثر من موقع إعلامي. وكي يرفعوا عن مبادرتهم أي تبعية للدولة، وأي غطاء سياسي فإنهم حرصوا على وصف جمعيتهم ب«الثقافية»، وتأكيدهم في ديباجة النص التأسيسي أن مبادرتهم ذات طابع ثقافي وفكري، وليست طرفا في الصراعات الحزبية ذات الطابع السياسي المباشر. وفي الحقيقة أن هذه المبادرة الأولى من نوعها في تونس ليست مفاجأة، وذلك لأسباب تاريخية وثقافية، حيث أن الراحل الحبيب بورقيبة، كان قد عبر في الصحف الفرنسية قبل حصول تونس على الاستقلال عن ميوله لإرساء دولة علمانية، من دون أن ننسى أن مجموعة الإصلاحات التأسيسية، التي أسستها النخبة السياسية الأولى، في فترة الاستقلال الأولى عملت على تفكيك الهياكل ذات البنى التقليدية والدينية، وهي إصلاحات تقيم الدليل على محاولة تجسيد دولة علمانية تستند إلى محاكم مدنية وضعية، خصوصا أن بورقيبة قام بإلغاء المحاكم الشرعية والتعليم الزيتوني والأوقاف الخاصة والعامة والمشتركة. كما أن الفعل السياسي الذي ساد الدولة الوطنية التونسية، لم يخل من مظاهر وتوجهات علمانية واضحة. ولعل المتابع لبعض الملفات، التي اشتد وطيسها في الأشهر الأخيرة في تونس، يدرك أسباب إلحاح أصحاب هذه المبادرة على خلع الجبة السياسية، استنادا الى خلفية مواجهة الدولة لظاهرة الحجاب، وأيضا تسلسل مجموعة من السلفية الجهادية في نهاية العام الماضي الى داخل البلاد، وقد آل الموقف الى مواجهة دوى فيها الرصاص. ولكن عندما نتمعن في مفهوم العلمانية، التي أسست مرجعيتها من فلسفة الأنوار، وتمثل نوعا من العلاقات الممكنة بين الدين والدولة، وهي علاقة الفصل، فإننا لا نجد ما يقلق هذه المجموعة العلمانية الثقافية. أما إذا كانت هذه المبادرة تسعى للتصدي إلى ظواهر اجتماعية دينية وإلى بعض التغييرات التي طرأت على المعيش الديني للمجتمع التونسي، فإن مشروع الجمعية التونسية للدفاع عن العلمانية يصبح سلاحا ذا حدين. وما يجعلنا نميل قليلا إلى هذه الفرضية هو إشارة أصحاب المبادرة إلى ما يتميز به المحيط العربي الإسلامي بمواصلة استهجان العلمانية، واعتبارها دخيلة وغريبة على المجتمعات العربية والإسلامية. ولكن هل يمكن لجمعية تونسية تهدف إلى الدفاع عن العلمانية أن تنجح في ما فشلت فيه قوى ليبرالية ذات تاريخ طويل؟ نطرح هذا السؤال لأن المشروع التحديثي، الذي تبنته تونس إبان استقلالها ما زال الى اليوم يثير الجدل والرفض في أوساط عربية كثيرة، فما بالنا بجمعية صغيرة محدودة في آليات العمل وتعلن بصريح العبارة والمعنى سعيها إلى نشر قيم العلمانية ومحو الانتكاسة التي تشهدها بعض مظاهر العلمانية في مجتمعاتنا. إنها بعض أسئلة أثارها خبر نية تأسيس جمعية ثقافية للدفاع عن العلمانية، مع ضمان حق أصحاب هذه المبادرة في التعبير عن طروحاتهم وتحديد الإطار المناسب لها. حتى ان جرأتهم في التعاطي بصوت عال مع مفاهيم (كالعلمانية واللائكية)، تثير حساسية فئات عريضة من مجتمعاتنا، تحسب لهم، خصوصا إذا ما نجحوا في الدفاع عن فكرة تخليص الديني من توظيف الساسة وإقحامه في مناورات تحط من هيبة ما هو ديني.