الزميل الكبير الأستاذ الدكتور هنري لورنس يعتبر هنا في باريس و أوروبا و الغرب من أكبر أساتذة الجامعة الفرنسية تخصصا و تعمقا في أسرار و ألغاز الشرق الأوسط وهو الذي كرمته الدولة الفرنسية بتحميله مسؤولية كرسي الحضارة العربية في معهد (الكوليج دو فرانس) منذ عقد من الزمن، وهو مؤلف أوسع الكتب التاريخية الأكاديمية انتشارا عن القضية الفلسطينية تم نقلها الى اللغات الحية المعروفة و تعد مراجع أساسية في معرفة التاريخ العربي الحديث ومنعرجاته المعقدة و الملتوية منذ حملة بونابرت على مصر التي خصص لها الأستاذ لورنس أول أعماله حين كنا زملاء عام 1979 في قسم الحضارة العربية الاسلامية بجامعة السربون الرابعة يشرف على رسائلنا لدكتوراه الدولة المستشرق الفاضل دومينيك شوفالييه. و للأستاذ هنري لورانس كتب عديدة حول الصراع الفلسطيني الاسرائيلي منها ثلاثة في شكل أجزاء متكاملة هي: اكتشاف الأرض المقدسة 1799-1922 و الرسالة المقدسة للحضارة 1922-1947 و الجزء الثالث الذي صدر هذه الأيام بعنوان: استكمال الرسالات النبوية 1947-1967 . و لا يخفى على المتابعين للشأن الفلسطيني بأن أعمال الأستاذ لورنس( المتزوج من سيدة لبنانية ) لا تحظى بتعاطف الأوساط الاسرائيلية المناهضة للسلام و العدل و الحق، بل ان هذه الأوساط تحاول النيل من صاحبها و من الرؤية الموضوعية التي يريد تقديمها عن مأساة شعب. و الأستاذ لورنس يواصل الكتابة عن القضية بنفس الروح العلمية العالية في شهرية لوموند دبلوماتيك و أسبوعية لوفيجارو، و طبعا لم يحظ بعد و على مدى عشرين عاما من الكفاح من أجل الحق العربي بأية دعوة من جامعاتنا العربية و أقسام التاريخ فيها و لا بالطبع من جامعة الدول العربية المنشغلة بما هو أهم و لا من منظمة المؤتمر الاسلامي التي تحفل أجندتها بالأمور الجدية الأخرى غير هذه التفاصيل" الهامشية". هذا الأسبوع و بمناسبة الأزمة الخطيرة المتفاقمة في فلسطين و الصراع الدائر بين حماس و فتح، يكتب الأستاذ هنري لورنس مقالة متميزة بعنوان: انقلابان أنجزهما الغرب ضد فلسطين! و كان الانقلاب الأول عام 2001 مع الانتفاضة حينما شعر الغرب بأن أبو عمار بدأ يدرك مخاطر اتفاقية أوسلو التي لم تنفذها اسرائيل و شرع الزعيم ينحاز لقضية شعبه بأمانة، و هنا انقلب عليه الغرب المنحاز لرؤية اسرائيل ففرض عليه تعيين رئيس حكومة حتى يفرغ ياسر عرفات من كل سيطرة حقيقية على مؤسسات السلطة. و هكذا أصبح أبو مازن هو رئيس الحكومة، وتم بعد ذلك ابعاد أبوعمار تدريجيا الى غاية وفاته في نوفمبر 2004. و جاءت بعد ذلك المؤامرة الغربية الثانية ضد فلسطين حين دعا المجتمع الدولي الى انتخابات نزيهة في الضفة و القطاع و اختار الشعب بأكثرية مريحة نواب حماس للمجلس التشريعي و اختار الغرب أبو مازن كخليفة لياسر عرفات. لكن الانقلاب بدأ مع السلوك العقلاني لحماس و اسماعيل هنية عندما انصاعت حماس رغم شرعيتها المؤكدة الى الحل الوفاقي حتى ترفع أمريكا و أوروبا الحظر على لقمة عيش الفلسطينيين. و بدأ ترجيح كفة فتح بصورة لا لبس فيها بالوسائل المعروفة و بالتنسيق مع تل أبيب و اشعال فتيل الحرب الأهلية التي خطط لها طويلا، في بلاد منهارة اقتصاديا و محاصرة ماليا و مقطوعة عنها حتى مستحقاتها من الضرائب و الاعانات التي وقع عليها الغرب! و النتيجة أن الغرب يجد نفسه اليوم مورطا في منطق أمريكي نشأ مع حادثة 11 سبتمبر 2001 أي الخلط المريع بين حركات التحرر الوطني و الارهاب. و هذا الفخ لا تعرف الحكومات الأوروبية اليوم كيف تتحرر منه! و ذلك المنطق المنحرف هو الذي يستبعد اليوم حماس و حزب الله و حركات المقاومة العراقية من أي مشاركة في ايجاد حلول للأزمات بينما هي حركات سياسية لها شرعيتها و لها نوابها في البرلمانات و لها علاقاتها الدولية القوية. و النتيجة التي ستزيد الطين بلة في فلسطين هي أن هذا المنطق الأعوج سوف يضع المناضل النزيه محمود عباس في موقف لا يحسد عليه أشبه بمواقف المتعاونين مع القوى الأجنبية ضد طموحات شعوبهم. و حينئذ كيف سيتصرف الغرب؟ هذه بعض ومضات من تحليل خبير أمين من عقر ديار الغرب للحالة الفلسطينية والعربية عموما. فكيف سيتصرف العرب و نحن نرى بعضهم ينزلقون الى حلول خبيثة و شريرة لا تقرأ حسابا سوى لأمن اسرائيل وحدها و تدمير مشروع الدولة الفلسطينية و قبره نهائيا؟ أفيقوا على هذه الحقائق التي يقولها بجرأة رجال غربيون نزهاء يرحمكم الله قبل فوات الأوان حين لن ينفع الندم.