درج عدد من الكتاب والباحثين العرب منذ انهيار المنظومة الإشتراكية وسقوط الصنم الشيوعي في عقر داره، بعد أن فشل في تغيير الفطرة البشرية تاركا وراءه أيتاما عربا لم يجربوا الشيوعية في بلدانهم، ولم يهزموا كما هزم رفاقهم في ألبانيا ودول أروبا الشرقية وأطلقوا أرجلهم إلى الريح باتجاه الليبرالية المتوحشة والاستعمار الإمبريالي المقيت، أقول ترك هؤلاء وراءهم أيتاما عربا فشلوا في تقبل الأمر الواقع، بأن ما جاء به زعيمهم الأول من تفسير مادي للتاريخ لم يكن سوى كتلة من السراب يحسبها البروليتاري ماء حتى إذا ما جاءه لم يجده إلا بغضا وحقدا وزرعا للفتنة ضد الفطرة البشرية كما هو الحال في كتابات الدكتورة السلوى الشرفي.. كتبت الدكتورة سلوى الشرفي في مقالة نشرتها لها مواقع تونسية حرة عن الفتوى في العالم العربي والإسلامي، وانطلقت من نقل رواية عن سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وبلغة شاعرية أحيانا وفلسفية أحيانا أخرى، أثبتت أن رمز الشجاعة والإقدام والتضحية في سبيل العقيدة الإسلامية لم يكن إلا قاتلا سفاكا من أجل أن يظفر بحسناء لم تمنعه العقيدة ولا تعاليمها الصارمة من تأجيل تلبية غرائز بشرية، كما لو أن خالد بن الوليد الذي يختزن التاريخ الإسلامي له صورا بطولية، ليس إلا مقاتلا من أجل النساء... قرأت الرواية التونسية وفي ذهني تاريخ طويل لواحد من أكبر الشخصيات الإسلامية بطولة وشجاعة وإقداما وأمانة، حتى أنه عد من أولئك الرجال الذي صنفهم كتاب الله بقوله: "لله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"، رجال قال الله فيهم: "لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه". لم تفاجئني الدكتورة سلوى الشرفي بهذه الافتتاحية، فالشيء من مأتاه لا يستغرب، وهي ليست سباقة إلى هذه المعلومات الزائفة والشاذة والمدسوسة في حضارتنا كما يفعل كثير من كتاب هذا الزمان، فقد دشنت نوال السعداوي في مصر ورفيقتها في النضال فريدة النقاش رمي السهام إلى صلب العقيدة الإسلامية، قبل أن يشتد عود الدكتورة السلوى بعد أن غابت شمس أستاذها وشقيق والدتها وخالها الدكتور محمد الشرفي صاحب التاريخ التحرري العميق، يوم أن ضاقت عليه أرض الجامعات التونسية بما رحبت فاستعان بالأمن الجامعي للدفاع عن أفكاره وحماية المناخ المناسب لتورق أفكارا وأساليب كالتي طالعتها في مقدمة مقالك.. وليس غريبا من الدكتورة سلوى الشرفي أن تتهم خالد بن الوليد بأنه عاشق للجمال والاغتصاب، فقد سبقها خالها يوم أن طالب باعتبار سيدنا خالد بن الوليد بطل الإسلام مجرم حرب، وطالب بمنع إطلاق اسمه على الشوارع داخل المدن الإسلامية، فهذه الشبلة من ذاك الأسد الذي سن مشروع تجفيف ينابيع التدين، كما لو أنه الفيل الذي يمم وجهه للإطاحة بالكعبة المشرفة، لكن حال دونه وذلك الطير الأبابيل وتعهد رب العالمين بأنه الحافظ لهذا الدين: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره..."، أقول لم يكن مستغربا أن تعمد سلوى الشرفي إلى لي عنق الأحداث التاريخية والتصيد في المياه القذرة بحثا عن روايات موضوعة جرح فيها العلماء، واختلفت فيها الروايات، حتى لكأن رواية سلوى الشرفي بنتها من ذات أفكارها، دون أن تذكر أن للحدث رواة وشواهد ومناهج في البحث والتنقيب، وأخذت الرواية من الزاوية التي تبحث عنها، لتأكيد فكرتها المسبقة عن الإسلام ووضاعة المسلمين، وهذا لعمري أسلوب يتنافى وكل المناهج العلمية القديم منها والحديث، لا سيما عندما يتعلق الأمر بدين مليار ونصف المليار من المسلمين! سوف لن أعيد رواية القصة التي يذكرها مؤرخو ورواة التاريخ الإسلامي، فقد سبقني إلى ذلك الدكتور محمد الهاشمي الحامدي في مقالته المنشورة عن فضائل خالد بن الوليد، ولكنني أضيف إلى ما قاله رواية واحدة للدكتور علي الصلابي في كتابه "أبو بكر الصديق" (219) عن قصة خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة فقال: "خلاصة القصة أن هناك من اتهم خالدا بأنه تزوج أم تميم فور وقوعها في يده ، لعدم صبره على جمالها ، ولهواه السابق فيها ، وبذلك يكون زواجه منها - حاش لله - سفاحا ، فهذا قول مستحدث لا يعتد به ، إذ خلت المصادر القديمة من الإشارة إليه ، بل هي على خلافه في نصوصها الصريحة". ولأن مقدمات البحث التي انطلقت منها الباحثة التونسية عن أمجاد غابرة قد مضمض عليها الزمن واستنشق، لفسادها وعدم دقتها، فإن ما تلاها من خلاصات أتت في تبسيط يصل حد السذاجة أحيانا لما اعتبرت أن حكم الدنيا هو للرأي وللعقل البشري بينما الدين يصلح أن يكون سلاحا للمعارضة، في لهث مستغرب لإبعاد الدين عن الحياة العامة كما لو أن بينها وبينه ثأرا قديما تتحين الفرص في كل مرة للنيل منه، ولهذا كان واضحا الاستعلاء على المنطق والمنهج العلمي والتاريخ بل وحتى الجغرافيا، حين عمدت إلى المقارنة الساذجة بين خليفة للمسلمين اتخذه علماء الاجتماع والمستقبليات ومراكز البحوث الاستراتيجية العالمية نموذجا للحكم العادل والاجتهاد الصائب وبين الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة الذي لم يتشرف بمصاحبة خاتم الأنبياء والمرسلين ولم ينم تحت شجرة في صحراء قاحلة بعد أن عدل بين الناس كما فعل بن الخطاب رضي الله عنه، بينما هو صوب وجهته لتجسيد نموذك أتاتورك المتهاوي هذه الأيام على وقع صعود حزب العدالة والتنمية صاحب التوجهات الإسلامية، ولعمري إنها مقارنة ضيزى! أما مبدأ الحاكمية لله فقد كان واضحا من أن اللاهثة التونسية وراء المفاهيم الكبرى التي تفوق حجمها، أنها لم تفهمه بالكامل، فلا وجود لداعية إسلامي ولا دارس شرعي يقول إن حوادث الزمان ستتكرر كما هي دون تغيير أو زيادة أو نقصان، ولهذا فإن في الفقه الذي لا تعلمه الشرفي مجال للاجتهاد والمقارنة والتمحيص حتى يتبين الحكم الشرعي الصائب. ولعلم الدكتورة فإن منهج علم الأصول والحديث كان فريدا وسباقا في نحت تجربة علمية بالغة الدقة التي تسمى الجرح والتعديل لم تطلها ألسنة النقاد حتى لو كانوا ما بعد حداثيين من تلامذة لنين وكارل ماركس قبله! ولقد راعني ما أشارت إليه سلوى الشرفي من الإعراب عن خشيتها من الفتوحات الإعلامية التي أزاحت الحجب بين الدعاة والناس، وبين العلماء والفقهاء وعامة المسلمين، وكشفت كل ذي دعوة على حقيقته، راعني أنها ضد هذه الحرية التي يستطيع من خلالها مثقفو السلطة والعوام أن يعرفوا كيف يأكل سكان الربع الخالي، وكيف يحيي بعض الناس عن طيب خاطر أحيانا، وبدون إرادة أحيانا أخرى الليالي الملاح في الكباريهات الفضائية، فبضدها تعرف الأشياء يا دكتورة. بقيت لي ملاحظة واحدة ما كنت أحسب أنني سأصل إليها أو سأدفع إليها، وتتعلق بالدرجات العلمية للكتاب والباحثين: فدرجة الدكتوراه تفرض على صاحبها الرصانة العلمية والدقة في التوصيف، والأمانة في النقل، والتحقيق في المسألة قبل إشاعتها من مصادر ضعيفة... وقبل ذلك احترام عقائد الناس ومقدساتهم، وللأمانة ما وجدت من هذه الصفات شيئا في مقالة المذكورة.. والله من وراء القصد...