للمرة الأولى منذ تولي عبد العزيز بوتفليقة مقاليد الرئاسة، يُهاجم المرحِّبون به من الناس بقنبلة تقتل وتجرح العشرات. ولئن نجا الرئيس الجزائري من الموت ولم يُصب بأذى، فإن الرسالة موجّهة إليه شخصيا، من طرف أناس يبدو أنه "يعرفهم ويعرفونه". كيف يعرفهم ويعرفونه؟ الجواب كان على لسان بوتفليقة شخصيا، إذ قال بعد الانفجار في وسائل الإعلام التابعة للدولة: "أنا لا زلت مُصرا على سياسة المصالحة الوطنية وأدعو من خلالها المتطرفين من الجانبين إلى الدخول في المصالحة الوطنية، لأنها السبيل الوحيد لعودة البلاد إلى برّ الأمان". ثم مضى بوتفليقة في وصف المتطرفين وقصد بهم على حدّ تأكيده: "الإسلاميين المتطرفين والعِلمانيين المتطرفين المرتدِّين"، ووصف الردّة، جديد على لسان بوتفليقة الذي بدا هادئا جدا وهو يتحدث عن انفجار مدينة باتنة، 500 كلم جنوب شرق العاصمة. انفجار سبق قدوم موكبه والقنبلة كانت في كيس حمله شاب مجهول وقف في صفوف الناس المرحّبين بالرئيس، ولا يُعرف لماذا انفجرت القنبلة قبل قدُوم الموكب؟ أهو خلل فيها؟ أم تفجير عن بُعد لم يعلم به الشاب، بسبب الثقة التي وضعها في من أعطوه الكيس؟ ويعتبر تصريح بوتفليقة الأخطر منذ توليه مقاليد الرئاسة عام 1999، من حيث الدّلالة على خُطورة الصِّراع في أعلى هرم السلطة. فالإسلاميون، ولئن عرفهم الناس بمتطرِّفيهم ومعتدليهم، مسلحهم ومسالمهم، إلا أنهم خارج دائرة صُنع القرار، وهم وإن كانوا طرف النقيض في المعادلة الجزائرية، إلا أنهم ليسوا كالعِلمانيين المتطرفين، لأن هؤلاء هم الطرف الآخر في المُعادلة المتناقضة، لكنهم داخل أجهزة الحكم. حديث بالغ الخطورة ويبدو أن هدوء بوتفليقة عندما علّق على التفجير، إنما هو نابع من معرفته للمتطرفين العِلمانيين، والمثير أن بوتفليقة قد فتح باب الحديث عنهم بعدما أن كان حصرا على رُواد المقاهي وغضب أئمة المساجد على ما يرونه حيفا في النهج التعليمي أو تبذيرا للمال العام فيما لا يعني. الواقع، أن حديث الرئيس عن العلمانيين المتطرفين بالغ الخطورة، فهذه هي المرة الأولى التي يربط فيها مسؤول في الدولة بينهم وبين تفجير استهدف المدنيين، بل ولم يجرُؤ مسؤول جزائري واحد إلى ربط تطرُّفهم العِلماني بعمل مسلّح يستهدف المدنيين. وكم كانت دهشة المراقبين عظيمة عندما سمعوا الرئيس الجزائري وهو يتحدث عن "علمانيين متطرِّفين مُرتدِّين، ابتعدوا عن الدِّين الإسلامي السمح"، لهجة أقرب ما تكون إلى إعلان الحرب، لأن فضح طرف متنفذ في السلطة بهذا الشكل، معناه اقتراب القضاء عليه أو الرّغبة في ذلك على الأقل. فقد علمت سويس إنفو أن قيادات كبيرة في الجيش قد حان أوان إحالتها على التقاعد، بعد أن كانت حديث العام والخاص في السنوات العشرين الأخيرة. كما أن المتطرفين العِلمانيين هم المقصودين في كلام قيادات سياسية تاريخية، كحسين آيت أحمد، زعيم جبهة القوى الاشتراكية الذي يتّهمهم بأنهم وراء استفحال ظاهرة الرّشوة والفساد، وبأنهم أقاموا شبكات معقّدة، تشمل مؤسسات الدولة، أمنييها ومدنييها، والشبكات هذه يعرفها بوتفليقة ما دام قد وصل الحد به إلى اتِّهامها بالوقوف وراء عملية التفجير. الرئيس بوتفليقة (يسار الصورة) يحيي سكان أم البواغي شرق الجزائر التي زارها قبل توجهه إلى باتنا حيث خلف التفجير الانتحاري عشرات القتلى والجرحى استهداف أعلى الهرم؟ وقد رشّح من سرايا صُنع القرار في الأسابيع الأخيرة، أن قوما داخل السلطة قد ضاقوا ذِرعا برفض بوتفليقة الإفراج عن أكثر من سبعين مليار دولار، هي القيمة التي أعلن الرئيس أنه يريد استغلالها في تنمية البلاد. كما أن القوم أرادوا بكل الطُّرق تغيير أعلى هرم في أسرع وقت ممكن، لأن بوتفليقة لم يكن متعاونا بالشكل الكافي، وهنا يجب ربط الأمور ببعضها البعض. ألم يعلن أحمد أويحيى، رئيس الحكومة السابق قبل أسبوعين أن المافيا تريد الاستيلاء على خيرات البلد؟ ومن هو أحمد أويحيى؟ عِلماني مُتشدد مُعادٍ للتيَّار الإسلامي، أما وأنه يتهم نفس القوم الذين عناهم بوتفليقة، بل وقبل أن يتحدث عنهم الرئيس، فإن هذا قد يعني شيئا واحدا: "انفراط حبات اتفاق التيار العِلماني المتطرف وفقده لصوابه لأسباب مجهولة". غير أن الإعلامي فيصل مطاوي يرى المسألة من باب آخر: "أعتقد أن وفاة العقيد إسماعيل لعماري، الرجل الثاني في جهاز الاستخبارات، قد عقَّد الأمور بعضَ الشيء في أعلى هرم السلطة، وأعتقد أن الأيام القادمة ستكون مليئة بالمفاجئات، الوضع سوداوي ولا أحد يمكنه توقع النتائج". تفاؤل بعيد عن الواقع عملِيا، لا يمكن للمتطرفين من الجانبين الاستمرار في الحرب، فالتعادل سِمة الموقف، والمجتمع يبتعد عنهما شيئا فشيئا، رغبة في الاستقرار بعد أزمة تستعِد للدخول في عامها السادس عشر، كما أن المجتمع قد أخذ بأسباب الإسلاميين المعتدلين وحسنات العِلمانية بطريقة سلِسة لا معنى للعنف معها. غير أن هذا التحليل التفاؤلي بعيد عن واقع معطيات أخرى، أهمّها أن هدوء بوتفليقة عند التعليق على الانفجار الذي استهدف هيبته كرئيس دولة، إنما هو نابع من عِلمه بأن المتطرّفين في أعلى هرم السلطة سيعملون كل شيء يقدرون عليه للحفاظ على مصالحهم المادية، التي يقدِّرها البعض بأكثر من خمسين مليار دولار. ويتمثل الغموض الذي يخشاه المراقبون في إمكانية قصور بعض أجهزة الدولة عن متابعة عبد العزيز بوتفليقة، والوقوع في شراك العِلمانيين المتطرفين الذين نسَجوا خيوط العنكبوت في كامل أجهزة الدولة، والحل قد يكمُن في الجيل الجديد داخل أجهزة الدولة، أمنييها ومدنييها، ممن لا ناقة له ولا جمل في كل ما يجري. "لا رئاسة بدون إقرار السلم والمصالحة الوطنية" والسؤال الخطير هنا، هل سيلجأ بوتفليقة لمساعدتهم كي يخرج من هذا النَّفق المُظلم، لأن التفجير كان رسالة له، ومن حسن حظ الجزائريين أنه سارع للحديث عنه وعن أصحابه. ومما قاله بوتفليقة: إنه "جاء إلى الحُكم من أجل إحلال السِّلم وإشاعة المصالحة بين الجزائريين" وبأنه "لم يقبل بالرئاسة، إلا من أجل إقرار السِّلم والمصالحة الوطنية". يحدث كل هذا وغالبية الشعب غائبة أو مغيّبة، وهو الأمر الأبرز في الأزمة الجزائرية، بمعنى أن أصحاب القرار ينفرِدون بالصِّراع والخلاف، وبقية الشعب تنتظر الغالب كي تتْبع خُطاه، ولكن يتَّضح بمرور الوقت أن سكوت العلمانيين المتطرفين، كما أسماهم بوتفيلقة، خلال الأيام القادمة، كفيل بإعطاء الرئيس أوراقا إضافية كي يهاجمهم أكثر، لأنه حبس أموال الاستثمار بسببهم، ويبدو أنه غاضب من امتنانِهم المستمر بأنهم ساعدوه للوصول إلى السلطة. منطقيا، وحسب تجارب الماضي، فإن هذا هو التوقيت الأفضل للتغيير في أعلى هرم السلطة أو كما يحلو للبعض وصفه بالانقلاب، والاحتمالات هنا معدُودة، فإما أن يركن كل طرف إلى مكانه كأن شيئا لم يكن، وإما أن يعمد العلمانيون المتطرفون إلى مواجهة بوتفليقة، ودعم الغرب لهم في هذه الحالة مشكوك فيه، وإما أن ينقلب جيل جديد من داخل أجهزة الحُكم ممّن عاش وعرف ولمس دلَع القوم الذين عناهم الرئيس، ولن يكون التغيير ممكنا إلا إذا كان في الطريق التي عناها بوتفليقة، وهي الأكثر وضوحا منذ استقلال البلاد عام 62 من القرن الماضي.