احتفلت تونس يوم أمس السابع من نوفمبر بالذكرى العشرين لوصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى قمة السلطة في البلاد، والذي شكل منعطفا مهما في تاريخ تونس، وخاصة بعد أن وصل الرئيس السابق، مؤسس تونس الحديثة الحبيب بورقيبة إلى سن لا تسمح له بإدارة السلطة، بالرغم من أن الدستور يكفل له البقاء رئيسا للبلاد مدى الحياة. جاء انقلاب بن علي الأبيض في وقت حرج هددت فيه الجماعات الأصولية الإسلامية بتدمير كل منجزات بورقيبة، التي رسخت المبادئ العلمانية، ومنحت هامشاً واسعاً للمرأة مقارنة ببقية الدول العربية، إلى جانب الإنجازات الاقتصادية التي جاءت من خلال التخطيط والتنظيم الجيدين، ومن خلال الاستثمار الأمثل للإمكانيات المتاحة، بعيداً عن عوائد النفط والغاز، كما في جارتيها الغنيتين الجزائر وليبيا، وأيضا بعيدا عن التهويمات الأيديولوجية ببناء المجتمع السعيد. التجمع الدستوري يتنازل عن بعض مقاعده في الحفل الذي أقيم بالقاعة الرياضية المغطاة في رادس أكد الرئيس بن علي أن:" بناء المجتمع الديمقراطي التعددي قوامه حرية الرأي واحترام حق الاختلاف والتعبير، وثقافة سياسية راقية تحترم علوية القانون ومبادئ الجمهورية. وهو مشروعنا الذي دأبنا على التقدم به خطوة بعد أخرى منذ فجر التغيير". كما أعلن الرئيس بن علي بهذه المناسبة:" إلغاء الرقابة الإدارية على الكتب والمنشورات والأعمال الفنية عند الإيداع القانوني وجعل الرقابة وإصدار قرارات المنع من النشر من مهام القضاء وحده مع الحفاظ على الإيداع من اجل صيانة الذاكرة الوطنية واستمرار تغذية مكتبتنا الوطنية بكل ما ينشر في بلادنا". كما وعد بأن "تكون نسبة حضور المرأة في القوائم للانتخابات التشريعية والبلدية 30% على الأقل". هذا فيما يخص قوائم الحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي أسسه الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، والذي حكم البلاد بدون انقطاع منذ استقلالها عن فرنسا عام 1956، وكان قبل مطلع الثمانينات هو الحزب الوحيد المرخص له بالعمل في تونس. ولا يزال التجمع الدستوري حتى الآن وبالرغم من إقرار التعددية الحزبية يسيطر على 80 % من مقاعد البرلمان بحكم الدستور، ويترك لبقية الأحزاب التنافس على ما تبقى من مقاعد. ومنذ يوم أمس قرر الرئيس بن علي تقليص هذه النسبة إلى 75 %. ويتساءل مراقبون عن مدى انسجام ذلك مع التطورات في المجالات الأخرى، والتي جعلت من تونس أعجوبة اقتصادية صغيرة في شمال إفريقيا، حيث تنمو الطبقة الوسطى بنسبة تفوق كل جيرانها، بينما تراجعت ولا تزال تتراجع هذه الطبقة المهمة في كل المنطقة. ويمكن حساب ازدهار هذه الطبقة من خلال وضعها الاقتصادي حيث يمتلك ثلثا الشعب التونسيمساكن خاصة، وخمس الشعب سيارة خاصة، و يشهد دخل الفرد تطورا منتظما بنسبة 7.3 % سنويا، بينما ارتفع الناتج المحلي في العشرة الثانية من عهد بن علي إلى 5 %، ويتوقع أن يصل إلى 6.3 %، في الوقت الذي يتراجع فيه الفقر بنسبة 3.8 % سنويا. وبكل تأكيد فإن هذه الإنجازات وفي غياب موارد مثل النفط تسهل من هذه القفزات يعتبر معجزة بالمقاييس التي ينظر بها جيران تونس إليها، حيث يذهب الليبيون والجزائريون إلى تونس للعلاج، بعد أن تدهورت خدماتهم الصحية التي تأسست بسبب الثروة النفطية، وليس بسبب الإدارة الناجحة. نعمة غياب النفط غياب النفط عن تونس لعب دورا مهما في خلق علاقات إنتاج صحية، و تأسيس إدارة لا تستطيع التعويض عن أخطائها بعوائد النفط المريحة، ولكن صغر مساحة تونس، وبالتالي صغر الصحراء في أقاليمها مقارنة بالجزائر وليبيا لعب الدور الأكثر أهمية، فوجود الأغلبية العظمى من السكان على الساحل التونسي، ووجود مدن مزدهرة هو الذي ساعد على نمو الطبقة الوسطى المدينية، وتمكينها من قيادة البلد، مقارنة مع ليبيا حيث كانت السلطة أغلب الوقت في البادية والأرياف. الوجه الآخر من القمر بينما يعلن الرئيس التونسي عن الإنجازات التي حققتها بلاده، كان مجموعة من الإعلاميين، والناشطين الحقوقيين قد أنهوا إضرابا عن الطعام استمر شهرا منذ يوم 30 سبتمبر الماضي، بينما تمر المطبوعات الخاصة والحزبية بأزمات مالية بسبب مشاكل وعراقيل وضعتها الحكومة. يقول رئيس تحرير مجلة الموقف الأسبوعية رشيد خشانة لمنظمة "مراسلون بلا حدود": " مشاكلنا لا تندرج في الإطار المالي فقط. فنحن نواجه عدة صعوبات للحصول على المعلومات لأن المسئولين الرسميين يرفضون الإجابة على أسئلتنا أو استقبالنا. لذا، لا بدّ لنا من إيجاد قنوات ومصادر معلومات أخرى". ويضيف رئيس تحرير الموقف إن "المطابع والمؤسسات الموزّعة للصحف المستقلة تتعرّض لضغوطات مهمة - ضريبية مثلاً -، مما يدفعها إلى توزيع الصحيفة مع تأخير يصل أحياناً إلى 48 ساعة". "قرية انتخابية" لتأييد انتخاب بن علي لولاية ثالثة عام 2004 ويقول مصطفى بن جعفر مدير تحرير مجلة "مواطنون" الشهرية لنفس المنظمة عن مجلته "نادرة هي الأكشاك التي تعرضها. فقد بقيت "مواطنون" غائبة عن الأنظار بنية السلطات وخوف الباعة". ولا شك في أن هذه القيود تقترن بعواقب مالية وخيمة تطال الصحيفة التي اضطرت لتقليص توزيعها من 5000 إلى 3000 نسخة. وليست هذه الصحف بمنأى عن الرقابة وأحياناً تتعرّض لمصادرات غير رسمية. وفي هذا الصدد، أشار مصطفى بن جعفر إلى أن "عناصر الشرطة قد يصادرون عدداً من كل الأكشاك دونما تبليغنا أو التقدّم منا بأي تبرير". تراجع مكانة تونس في حرية الصحافة ليست العراقيل والعقوبات حكرا على المطبوعات المرخصة فقط، بل طالت المدونين و الكتاب الذين ينشرون إنتاجهم في مواقع الكترونية خارجية، وخاصة إذا كانت مواقع تابعة للمعارضة. هذا ما حدث مع للمحامي محمد عبو الذي أمضى 28 شهرا في السجن بسبب نشره مقالات في مواقع خارجية، ومن الغريب أن هذا النشاط لم يعد يعرض صاحبه للسجن في ليبيا والجزائر، وهذا الوضع جعل منظمة مراسلون بلا حدود تضع تونس في المرتبة 34 من قائمة الدول ذات السجل السيئ في مجال حرية الصحافة. أما في القائمة الدولية التي تتبنى تصنيفاً يبدأ بالبلد الأكثر دعماً للحريات الصحافية فقد تراجعت مكانة تونس المتراجعة أصلا دوليا لتنتقل من الترتيب 142 إلى 169 فيما يخص حرية الصحافة. رئيس مدى الحياة قد يرى البعض هذه الإجراءات مبررة في فترة مواجهة المد الأصولي، وهذا ما جعل الإتحاد الأوروبي يغض الطرف عن أوضاع حرية الصحافة وحقوق الإنسان، ويوقع اتفاقية تعاون مع تونس. لكن استمرار هذا الوضع يشكل تهديدا لكل الإنجازات الأخرى، والمنطقة في حاجة إلى وجود نموذج ناجح على كل الأصعدة، خاصة وأن أخطاء أمريكا في العراق أجلت الضغط على الأنظمة العربية الحاكمة من أجل تجذير الديمقراطية، وتحول التركيز فجأة إلى المحافظة على استقرار هذه الأنظمة. بالتالي يستطيع الرئيس بن علي الاطمئنان وهو في الحادية والسبعين من عمره، إلى أنه سيحكم البلد ولاية أخرى، وخاصة بعد أن منحته التعديلات الدستورية التي أجريت عام 2002 الحق في ولاية ثالثة على عكس ما كان متوقعاً، ولا يستبعد أن تتكرر الآلية ذاتها لتمكينه من الحكم مدى الحياة. وكان بن علي قد استهل عهد حكمه عام 1987 بإحراء تعديلات على الدستور ألزمت الرئيس بولايتين رئاسيتين فقط، بعدما كان الدستور سابقاً يتيح للرئيس الحكم مدى الحياة. ويخشى البعض أن يبقى الرئيس الحالي حتى يبلغ من العمر عتيا، مثلما حدث مع الرئيس بورقيبة الذي شكل وجوده عقبة حقيقية بالرغم من أياديه البيضاء على تونس اليوم.