2 _ المصالحة مع الزمن لم يغب عامل الزمن أو الوقت عن الذهنية الإسلامية أيام مجدها وعزها حتى كثرت الأمثال في هذا الباب معبرة عن تلازم هذا العامل مع السؤدد والفلاح الدنيوي والأخروي "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، وكانت شعائر هذه الأمة يحملها وقت محدد وميقات يملأ ساعات ليلها ونهارها [إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا]، وقد ساهم ولا شك ضمور هذا العامل، في تقاعس أطراف الأمة ونكوصها لا حقا، وتخلفها عن الأمم. كانت فكرة اللحاق بالأمم المتحضرة وما حمله فكر النهضة في القرن الأخير والذي سبقه، عند رواده الأفغاني والطهطاوي والكواكبي ومحمد عبده وغيرهم، أيا كانت مشاربهم وأطروحاتهم، تحمل في طياتها بصفة مباشرة أو مبطنة، الإيحاء إلى دور هذا العامل في التقدم والازدهار، من ذكر للتخطيط والمَأْسَسَة، أو لعقلية الانضباط في العمل والإنتاج. كما جعل مالك بن نبي لاحقا، وفي تحديده لشروط الحضارة وعناصرها، من عامل الوقت أساسا مع الإنسان والتراب، في بناء نهضة الأمة من جديد "الزمن نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل ... ولكنه نهر صامت حتى إننا ننساه أحيانا وتنسى الحضارات في ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوَّض... إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع، وأن يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة، ولا أن تستعيدها إذا مضت"[ ] [1]. واعتبار عنصر الزمن في معادلة الإصلاح والمصالحة تتجلى في التركيز على جانب الاستراتيجية والمدى البعيد على مشاغل اللحظة والتكتيك، وهذا يجرنا إلى تنزيل مفهوم التخطيط منزلته الأساسية، بعيدا عن الهامشية والعشوائية والفوضى. يروي الشيخ القرضاوي أنه ذكر يوما أمام أحد الدعاة ضرورة التخطيط القائم على الإحصاء ودراسة الواقع، فكان جوابه : هل تحتاج الدعوة إلى الله، وتذكير الناس بالإسلام إلى تخطيط وإحصاء؟[ ] [2]. هذه الأمية بعامل الزمن وتهميشه عن مجال التنظير والفعل، ساهمت ولا شك في استبعاد العقلانية والموضوعية والتأني في فهم الواقع ومتغيراته، وسارعت في القفز وطي المراحل دون وعي بمدى تأثير الزمن على عديد المقاربات والممارسات. يقول حسن البنا رحمه الله في أحد نصائحه وكأنه استشرف هذا الانحراف المستقبلي : "الزموا نزوات العواطف بنظرات العقول... وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع"[ ] [3] غاب عامل الزمن في بعض محطات الحركة الإسلامية الإصلاحية وغابت معها الجدولة الزمنية وأجندة التعامل والتمكين، وظل السعي في الكثير من الأحيان عشوائيا، من باب رد الفعل، أو من باب دعها حتى تقع. فكانت أفعالها وأقوالها غالبا ما تلحق الحدث، وفقدت القدرة على استباقه والمجيء قبله، وكثيرا مانسحقت إلى الماضي بحثا عن صواب فعل أو صلاح نظر ورفضت مسار الزمن، فتضببت الرؤيا الاستراتيجية أو تهمّشت في طرق التعامل مع الآخر وخاصة مع الأنظمة الحاكمة، وغلب في بعض المواقف والأحداث لغة المزاج والتفكير الذاتي، والعصمة والقدسية ولو بدون وعي، و تسابقت ممارسات اللحظة، زيادة على ما ينتجه عادة الحراك السياسي من تأثيرات وردود عامة سريعة أو متسرّعة. ولعل لغياب المؤسسة، وتقلص الجانب المعرفي والعلمي التخصصي، واستباق المراحل، وهيمنة السياسي، و غلبة المنحى السلطاني في التغيير، دورا في ضمور عامل الزمن لدى الحركات الإصلاحية الإسلامية. عودة الزمن إلى الحركة الإسلامية، وعودة هذه الأخيرة إلى الزمن، يجب أن يتمثلا في واقعية تنظيراتها وممارساتها، وابتعادها عن المثالية المزيفة، والمراهنة على المدى البعيد في التغيير حتى اكتمال القابلية والقبول لدى جماهيرها، و يتجلى في تعاملها العلمي والدراسي التخصصي مع ما يدور حولها من بيئات وظواهر مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية، وفي إحداث أجندات وجداول زمنية وأهداف واضحة لكل محطة في مشوارها التغييري. حتى لا تختلط المراحل وتتعقد المسارات وينال الضباب منازل القول والفعل. فلا يقع تجاوز المرحلة إلا إذا اكتملت صورتها، وتحقق هدفها، وتم تقييمها ومراجعة سلبياتها وإخلالاتها. لم يكن التخطيط يوما منازلة للغيب، ولا علم التوقعات مرادفا للزندقة والغلو، فقد خطط الرسول الكريم وأحدث الأجندات وحدد الأزمنة والأهداف، و دستور المدينة ومعاهدة الحديبية بكل أبعادهما تأكيد لهذا التصرف الراشد والمسعى الرشيد. ومن قبله صلى الله عليه وسلم، قام يوسف عليه السلام بتخطيط محكم رعاه الغيب لمداخيل أمة ومصاريفها. فالتخطيط "جهد ذهني معرفي يبذله الإنسان في تصور الأوضاع والإمكانيات الحاضرة، ووضعها في برامج، يستهدف من ورائها مواجهة ظروف مستقبلية بغية الوصول إلى هدف محدد.. فهو عمل تحكمي قصدي يراد منه الاستفادة من معطيات المستقبل وتطويعها لإرادة الإنسان على قدر المستطاع... والتنبؤ تلمس أحوال المستقبل بناء على معلومات ومعطيات محددة يستخدمها تفكير منطقي ونظر ثاقب"[ ] [4]. ولقد عانت الحركة الإسلامية الإصلاحية في الكثير من مشوارها، ضبابية في الأهداف، وازدواجية في المنهجيات وتعدد في الخطابات، كانت نتيجة ضمور عامل الزمن، وتهميش عاملَيْ التخطيط والتنبؤ العلمي. ويُعتبر تحديد الأهداف والمنهجيات جزءا هاما وأساسيا في نجاح التخطيط واحترام الأجندات، وكلما غاب الوضوح والشفافية، وكلما ارتجت القناعة بالهدف أو المنهجية، أو قلّ الإيمان بضرورة تحقيقهما، أو ارتفع سقف الهدف وتجاوز الممكن المتاح، أو علا صوت المثاليات والقفز على الواقع، إلا انهار التخطيط، أو قلت فاعليته، ووقع المحظور، من مصادمة للحقائق وفشل للمشروع. ولقد سعى الغيب في المشروع التغييري الرسالي الأول، والذي قاده الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إلى تحديد أهدافه بكل وضوح، وتحديد المدة الزمنية لذلك، فكانت الفترة المكية تهدف بكل شفافية ودقة إلى صياغة الإنسان الجديد، وتشكيل عقليته، عبر نقلات عقائدية وروحية وتصورية ومعرفية، والقرآن المكي حافل بهذا المنحى والذي دام ثلاثة عشر سنة. تلاه مباشرة هدف آخر واضح المعالم والرؤى، وهو إقامة المجتمع المسلم والدولة الإسلامية، والذي دام إنجازه كاملا عشر سنوات، انتهت بوفاة صاحب الرسالة عليه السلام وتحقيق أهدافها المحددة. يتبع ملاحظة : وقع نشر هذه الورقة بفصولها العشرة لأول مرة سنة 2004 في بعض المجلات والمواقع نذكر منها التجديد المغربية واسلام او لاين... هوامش : [1] مالك بن نبي "شروط النهضة" الطبعة الرابعة، دار الفكر سورية، 1987، ص: 145 146. [2] د. يوسف القرضاوي "أين الخلل" مكتبة وهبة، الطبعة السادسة 1997. القاهرة. ص: 47. [3] الإمام حسن البنا "مجموعة الرسائل" المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، الطبعة الثالثة، بيروت، 1984، ص: 127. [4] د. عبد الكريم بكار "تجديد الوعي" دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 2000، ص :262 و 265. المصدر : مراسلة من موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي www.liqaa.net