اسمحوا لي في البداية أن أعترف لكم بشغفي الدائم لمجموعة من الفعاليات الثقافية الكبرى في تونس، التي من بينها مهرجان أيام قرطاج المسرحية الذي عشنا على وقع فعاليات دورته الثالثة عشرة في الأسبوع المنقضي. فهو من أبرز المهرجانات المسرحية العربية والإفريقية، بالنظر إلى إسهاماته الكبيرة على امتداد حوالي ربع قرن في إثراء المشهد المسرحي العربي والإفريقي. لكن هذا الإرث الجميل للمهرجان يلحّ علينا أن نضع الكثير من نقاط الاستفهام حول خصوصيات الدورة الحالية التي تميزّت بكثير من البرود، إذ افتقدنا البريق والوهج الخاص الذي كنّا نعيشه مع أيام قرطاج المسرحية التي تنتظم كلّ سنتين بالتوازي مع أيام قرطاج السينمائية لولا حضور الشاعر العربي الكبير محمود درويش في أمسية شعرية مشهودة تدافع إليها جمهور غفير غصت بهم دارج المسرح البلدي بتونس العاصمة. ممّا دفع بالكثيرين إلى التساؤل عن غياب عديد الفعاليات، حتى أن المسرحي المنصف السويسي أحد مؤسسي المهرجان ومديره لدورات مختلفة في بداياته تحدث عمّا سمّاه "بعبقرية الإضافة بالحذف". لم يتردد المسرحي محمد إدريس مدير المهرجان في الدفاع عن موقفه القاضي بحذف مسابقة المهرجان منذ الدورة السابقة التي أدارها هو نفسه، وحجته في ذلك أن المسرح هو مدارس ومناهج وتجارب مختلفة ومتنوعة ولا يمكن الجمع بينها في مسابقة واحدة، حتى أنه وصف مثل هذه المسابقات بأنها شبيهة بسباقات الخيول. لكن يعارضه في هذا التوجه عدد كبير من المسرحيين من تونس وخارجها ممن لهم صلات مباشرة بالمهرجان، وحجتهم في ذلك أن التسابق حق تاريخي منذ الإغريق الذين كانوا يتسابقون في إنتاج أعمال مسرحية راقية وخالدة. ثم أن الجائزة من شأنها أن تمنح العمل المسرحي جواز سفر كاسح نحو جمهور أوسع ومسارح مختلفة. لأنّ تتويج في مهرجان بحجم مهرجان قرطاج المسرحي أو غيره من المهرجانات المسرحية الكبرى يحقق إشعاعا للعمل المسرحي والمساهمين فيه. ومن حق المبدع المسرحي المتميز أو المتفوق أن يمنح حقه من الاعتراف بمهارته ونبوغه في محافل فنية كبرى. ويذهب آخرون نحو اعتبار أن التسابق في المسرح لابدّ أن يقتصر على النصوص المسرحية على نحو ما كان قائما زمن المسرح الإغريقي. لكن هل أنّ إدارة أيام قرطاج المسرحية تتميزّ بعبقرية خارقة جعلتها تنتبه إلى هذه المغالطة التي نعيشها في كلّ مهرجان مسرحي؟ ويرى عدد آخر أن حذف المسابقة هو اغتصاب لحقهم في التتويج والتفوق والتميّز. وبالعودة إلى إحدى الدورات السابقة الغير بعيدة في الزمن أحدث الأستاذ محمد المديوني عندما أدار المهرجان جوائز إضافية لإعطاء المهن المسرحية حضورا أكبر كالسينغرافيا والأزياء والإضاءة وغيرها من العناصر الأخرى التي لابدّ منها في لاكتمال العرض المسرحي. وساهمت "عبقرية الحذف بالإضافة" كما علّق المسرحي المنصف السويسي في إلغاء أشياء كثيرة كانت من ركائز المهرجان ومنها : الندوة العلمية الدولية التي كانت تطرح قضايا المسرح من زوايا مختلفة وتدفع بالحضور إلى حراك فكري جادّ. وتساءل عديد المسرحيين والإعلاميين عن سبب حذف هذا النشاط الفكري الذي ميّز المهرجان منذ ولادته. وعن هذه النقطة أفادنا الكاتب والصحفي أحمد عامر المسؤول عن البرمجة والعلاقات العامة في المهرجان بأن قرار الحذف جاء نتيجة عزوف الجمهور عن حضور مثل هذه الأنشطة. لكن مثل هذه الندوات هي للمختصين من مسرحيين وإعلاميين وليست لعامة الناس. كذلك الشأن بالنسبة إلى النقاشات التي كانت تعقد في اليوم الموالي للعروض المسرحية، تمّ حذفها بسبب غياب الجمهور عنها حسب إدارة المهرجان. أسماء بارزة لم تحضر حفل التكريم : شهدت باخرة قرطاج الراسية بميناء حلق الواديبتونس حفل استقبال لضيوف المهرجان وبعض المشاركين فيه. خصص للقاءات والحوارات الجانبية بين الضيوف، حتى حان موعد التكريمات التي كانت فرصة للاعتراف بجميل من اجتهدوا لإثراء المسرح بطاقاتهم الفنية والإبداعية. لكن لماذا تغيّب عزالدين قنون وليلى طوبال وغيرهم وهم من المكرّمين. ثم لماذا تمّ تجاهل أحد أبرز مؤسسي المهرجان الفنان المنصف السويسي، وعدد آخر من نجوم المسرح والدراما في تونس أمثال : الفاضل الجعايبي، الفاضل الجزيري، جليلة بكار، يونس الفارحي، علي بنور ... والسؤال وفق أي مقياس تسند التكريمات في المهرجان؟ وقد علقت الممثلة العراقية الكبيرة أزادوي صامويل أنه كان لابدّ من إعطاء حفل التكريم أهمية أكثر كأن يتم تقديم سيرة المبدعين الذين شملهم التكريم حتى نعرف من هم وما هي إسهاماتهم المسرحية التي أهلتهم إلى مرتبة التكريم في معرض وثائقي أو كتيب خاص أو عن طريق عرض للفيديو يصاحب لحظة التكريم. التواصل منقوص على الرغم من الجهد المبذول : باستثناء الأسماء الكبيرة والمكرّسة في المسرح العربي أمثال حسام تحسين بك، جيانا عيد، عزيز خيون، عواطف نعيم، شذى سالم، نضال الأشقر ... وجد أهل الصحافة والإعلام وكذلك المسرحيين صعوبة في التعرّف إلى بعضهم البعض لأنه لم يتمّ تقديم الضيوف في حفل الافتتاح الذي اقتصر على كلمة مدير المهرجان المسرحي القدير محمد إدريس وكذلك الشأن في حفل الاختتام. كما أننا وجدنا صعوبة في الحصول على المعلومة المناسبة على الرغم من مجهود الكاتب والإعلامي أحمد عامر المكلف بالبرمجة والعلاقات العامة. إذ كان بالإمكان العودة إلى تجربة الإذاعة الداخلية للمهرجان والتعويل على طلبة المعهد العالي للفنون الدرامية لخدمة الباحثين عن المعلومة بأزياء مميزة على نحو ما تم العمل به في دورات سابقة. كما تجدر الإشارة إلى النشرية اليومية للمهرجان التي كانت أنيقة وجميلة لكنها تخلت عن المساحات النقدية التي كانت تساهم في كتابتها عديد الأقلام والأسماء المميزة في المسرح العربي. إذ أنها اكتفت بتقديم فكرة عن العروض المبرمجة وضيوف الدورة وصفحات من تاريخ المسرح التونسي والعربي، ولم يكن حضور النقد بارزا كما تعودنا. نحو إشعاع أكبر للمهرجان على الرغم من كلّ هذه الملاحظات نجح المهرجان في جمع الكثير من المبدعين في المجال المسرحي وقدّم لجمهوره أعمالا جيّدة جدّا من أقطار مختلفة، كما أنه أجاز المرور على خشبته لمسرحيات بسيطة وساذجة أحيانا. ويبقى التميّز لبعض الأعمال منها : رهائن لعزالدين قنون، وخمسون للفاضل الجعايبي من تونس، وجدارية للمسرح الوطني الفلسطيني وحضر تجوال من العراق. كما أن حضور الشاعر الكبير محمود درويش إلى تونس يعدّ بحدّ ذاته حدثا كبيرا منح المهرجان زخما جميلا.