تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بوكلير موسكاو أمير ألمانى فى البلاد التونسية
نشر في الوسط التونسية يوم 01 - 02 - 2008

يتفق أغلب المؤرخين والجغرافيين الغربيين المختصين فى شمال إفريقيا من أمثال شارل اندريه جوليان وجان ديبوا أن رحلة الأمير الألمانى بوكلير موسكاو "P?CKLER-MUSKAU" التى قام بها إلى البلاد التونسية عام 1835، أى قبل 46 عاما من دخول الاستعمار الفرنسى إلى البلاد، تعتبر من أهم الوثائق التى يمكن الاعتماد عليها فى التعرف على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبشرية فى تونس خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وقد صدرت الطبعة الأولى لهذه الرحلة الممتعة والمفيدة فى آن فى مدينة "شتوتجارت" الألمانية عام 1836.
أما الطبعة الفرنسية فقد صدرت فى السنة التالية، أى عام 1837.
وهذا ما يدل على أنها لاقت صدى جيدا عند صدورها خصوصا عند أولئك الذين كانوا مهتمين بالتعرف على خفايا الحياة فى شمال إفريقيا، وفى بلاد العرب عموما.
أما الطبعة العربية فلم تصدر إلا عام 1989 وذلك عن دار "بيت الحكمة" بتونس.
رحالة ارستقراطي
صاحب هذه الرحلة كما أسلفنا الذكر هو الأمير كود فيج هارمن فون بوكلير موسكاو "P?CKLER-MUSKAU". وقد ولد عام 1785 توفى عام 1871. وتقول الوثائق المتعلقة بحياته أنه كان ينتمى إلى عائلة أرستقراطية كبيرة فى شرقى ألمانيا. وقد ورث عن والده سنة 1811 مقاطعة موسكاو الواقعة فى إقليم "أو برلوزتس" "OBERLAUSITZ"، فخول له ذلك أن يصبح أحد ملاكى الأراضى الكبار.
وفى عام 1822 حصل من ملك بروسيا على لقب "أمير" "F?RST" الشيء الذى ساعده على أن يتزوج "لوسي" "LUCIE" ابنة المستشار البروسى "هاردنبارج" "HARDENBERG"، وقربه من بلاط برلين. مع ذلك لم يتمكن رغم المحاولات العديدة التى بذلها من الحصول على منصب سفير لدى البلاط العثماني. وربما تعويضا عن خيبته السياسية هذه، اهتم الأمير بحديقته اهتماما كبيرا حتى أنها أصبحت من أجمل الحدائق فى أوروبا كلها.
ثم غرق الأمير فى ديون ثقيلة، فسافر إلى انكلترا باحثا عن زوجة تنقذه من الإفلاس الذى كان يتهدده وذلك بعد أن اتفق مع زوجته الأولى على طلاق شكلي. غير أنه باء بالفشل هناك، فعاد إلى قصره لينشر فى عام 1830 كتابا يحمل عنوان "رسائل ميت" "BRIEFE EINES VERTORBENEN".
وقد لاقى هذا الكتاب رواجا واسعا لا فى ألمانيا فحسب بل فى جميع أنحاء أوروبا ليس بسبب قيمته الأدبية أو الأسلوبية وإنما لطرافة الأفكار التى وردت فيه والتى اتسمت بالتحرر والانفتاح والجرأة. وهو أمر كان منعدما انعداما كليا عند الطبقة التى ينتمى إليها، أى الطبقة الارستقراطية. وربما لهذا السبب نعته البعض ممن أحبوا كتابه ذاك ب"الارستقراطى الديمقراطي".
شخصيات نافذة
وفرارا من المشاكل المادية والمعنوية التى كان يتخبط فيها، قرر الأمير أن يقوم برحلة ثانية، فوقع اختياره على الجزائر وتونس. وقد أبحر الأمير بوكلير الذى كان آنذاك فى الخمسين من عمره، إلى الجزائر فى شهر يناير/كانون الأول 1835 ومن هناك قصد تونس برفقة شاب جزائرى فى الثامنة عشرة من عمره يدعى مصطفى، وشاب ألمانى يدعى كارل ياجر "KARL J?GER". وعند وصوله إلى العاصمة التونسية استقبل باحترام كبير من قبل السفراء والدبلوماسيين الأوروبيين.
وفى ما بعد استطاع أن يرتبط بعلاقة وثيقة مع شخصيات نافذة فى الإيالة التونسية، وساعدته العائلة الحسينية الحاكمة على القيام بجولته فى العديد من المدن والمناطق فى ظروف جيدة. وفى الكتاب الذى أصدره بعد انتهاء هذه الرحلة تحت عنوان "سميلاسو فى إفريقيا" "سميلاسو هو الاسم المستعار الذى اختاره لنفسه" يصف أسواق مدينة تونس على الطريقة التالية "وجدنا أسواق تونس الزاخرة، المغطاة أنهجها بسقوف حجرية تظللها وتقيها من المطر، مضاءة فى رابعة النهار بالعديد من الثريات الدائرة.
وكانت واجهات الدكاكين ذات الأعمدة الملونة بالأحمر والأخضر والأبيض، تعج بالسلع، اذكر منها المرايا والحرائر والأقمشة المطروزة والزرابى المختلفة الألوان. واشتملت هذه المعروضات على بضائع عجيبة قد يكون بعضها من مخلفات غنائم أوروبية المصدر، وقعت فى يد القراصنة سابقا. ولقد كانت الأسواق كلها فى ازدحام واكتظاظ كبيرين، زاد فى حدتهما وجود كثير من الصبيان المتطفلين. ولم يترك بعضهم الفرصة تفوت دون أن يسدد سرا إلى الكفار من أمثالنا ضربة غادرة ماكرة".
وأثناء تجواله فى شوارع تونس التى أزعجته أكداس الأوساخ المتراكمة فيها، لاحظ الأمير بوكلير وجود الكثير من اليهوديات اللائى كن يتجولن لا ملتحفات كالمسلمات، بل كن يكتفين بستر أفواههن بخرقة من القماش الأسود.
أما الزنجيات من النساء فكن يتميزن بميل مفرط إلى اللباس ذى الألوان المتنوعة. وذات يوم شاهد الأمير زنجية غطت رأسها بمنديل أخضر وارتدت قميصا نصفه الأيسر أحمر ونصفه الأيمن أصفر وتأزرت بملاءة سوداء من الأمام وزرقاء من الخلف.
تاريخ العائلة الحسينية
وفى كتابه يستعرض الأمير بوكلير تاريخ العائلة الحسينية متوقفا عند الأحداث الكبيرة التى عرفتها هذه العائلة، وعند المؤامرات السبع التى حاكها أفرادها ضد بعضهم البعض. وبدقة متناهية، يصف لنا زيارته إلى قصر الباى فى ضاحية باردو حيث استقبله "سيدى مصطفى" شقيق الباى "اجتزنا بابا جميلا فى طرفه المقابل فإذا بنا فى قاعة متميزة كسيت جدرانها بالقماش الأحمر وفرشت أرضيتها بالرخام المصقول، الأبيض منه والأسود، وهنا وتحت نافذة كبيرة فى الحائط المقابل، تربع "سيدى مصطفى" على أريكة، وكان يرتدى زيا عسكريا من الطراز الأوروبي، يمتاز بياقة مطرزة بالأحمر، وغطى رأسه بالشاشية المألوفة.
وكان ساكنا لا يتحرك، وفى يده اليسرى، المتعددة الخواتم ذات الأحجار الكبيرة، علبة ذهبية للتبغ، وبالقرب منه محرمة يطل من تحتها مسدسان وخنجر. وتقدمنا نحوه، مخترقين ثلاثة أو أربعة صفوف من الرجال حملوا شتى اللباس، وذلك أن "سيدى مصطفى" لم يلبث أن انتهى من الإشراف على جلسة قضائية وعلى إقامة الصلاة وذلك نيابة عن أخيه الباي.
بعد أن استقبله "سيدى مصطفى"، حظى الأمير بوكلير باستقبال من قبل الباي. وقد وصف هذا الاستقبال قائلا "استقبلنا الباى فى قاعة فسيحة شكلت فى نظرى لوحة مسرحية بأتم معنى الكلمة. فكانت جدرانها مجللة بستائر المخمل القرمزي، المطرزة بالذهب، كما زخرف السقف المقبب بالذهب وشتى الألوان الساطعة الزاهية.
وعلقت يمينا ويسارا أسلحة كثيرة بديعة الصنع: سيوف وخناجر على اليمين وأسلحة نارية على اليسار، كلها تومض وتبرق ذهبا وفضة ومعدنا صقيلا، وألماسا وأحجارا كريمة على مختلف الألوان "...". كان الباى على غرار شقيقه يتكلم الإيطالية شيئا ما. وكان عموما على قدر وافر من البشاشة والآداب اللبقة، ترتاح لها النفوس".
وعلى لسان إحدى زوجات المقيمين فى تونس، قدم الأمير بوكلير وصفا للحريم فى قصر الباى "دخلنا قاعة أسدلت على جدرانها ستائر المخمل الأحمر المطرز بالذهب، وتدلت من سقفها أقفاص العصافير، المذهبة الطلاء.
وعلقت فيها أيضا نماذج من الأسلحة المختلفة الأنواع. وكانت امرأة الباى جالسة قبالة المدخل على أريكة عثمانية، ترتدى أثمن الثياب وأفخمها ولكنها عديمة الذوق. وما إن دخلنا القاعة حتى هبت واقفة ودعتنا إلى ا لجلوس حذوها. وكان ذراعاها عاريين وكذلك رجلاها وقد انتعلت شبشبا صغيرا مطرزا، تنتهى مقدمته بانعقاف، ويرتفع قدر نصف بوصة، فيمسك بهذا الطرف بين أصبع القدم الأكبر والمجاور له للسير بهذا النعل. ولاح لنا من مكان جلوسنا، وعبر أبواب تفتح على غرف جانبية، جمع غفير من الجواري، بعضهن منغمسات فى الحديث، وبعضهن متفرغات لشتى المشاغل، ولا أظن، حسبما بدا لي، أن عددهن كان يقل عن الألف جارية".
وعقب زيارة لضواحى تونس الشمالية، خصوصا قرطاج وآثارها الرومانية الشهيرة، انطلق الأمير بوكلير إلى داخل البلاد. فزار زغوان وآثار معبدها الرومانى الذى تنبع من تحته عيون ماء، وتسلق جبلها العالى ثم واصل رحلته مستعرضا العادات والتقاليد فى القرى و"المداشر" التى كان يمر بها، راويا القصص التى كان يسمعها، منتقدا بعض المظاهر التى لم تكن تروق له، مقارنا بين الحياة العربية والحياة الأوروبية، واصفا الطبيعة وصفا جذابا "امتطينا جيادنا وسرنا من جديد فى مسالك ملتوية وسط مناطق رومانطيقية جدا برزت فيها جبال رائعة الجمال تعاقبت وتعالت، كلما زدنا فى الهبوط، فى ستة أو سبعة صفوف متباينة اللون.
وما لفت نظرى بالخصوص فجوة عريضة فى الجبل وفى أحد جوانبها ثلمة ناجمة عن سقوط صخر ناتئ. وشاهدنا تلك الثلمة عن كثب لما تعين علينا بعد ذلك اجتيازها بمشقة قصوى. وما زالت توجد فى الناحية الأخرى من الثلمة بعض الآثار الرومانية التى تتميز بعظمة أحجار بنائها وضخامتها".
القافلة تصل إلى القيروان
وازدادت رحلة الأمير عسرا عندما توغل هو وقافلته الصغيرة فى البوادى والأحراش. وقد اضطروا أحيانا إلى قضاء الليل تحت الخيام وليس معهم إلا القليل من ماء الشراب. بل وكادوا يحرمون من الأكل لو لم يأتهم بعض بدو الخيام المجاورة بشيء من البيض واللبن وفى الآن نفسه بدفعة من البراغيث الكثيرة التى حرمتهم من النوم.
ولم يكفهم ذلك، بل هبت عاصفة شديدة كادت تقتلع الخيمة الهزيلة. بعد ذلك وصلت القافلة إلى القيروان. وبالرغم من أن زيارة هذه المدينة المقدسة كانت محرمة على النصارى فى ذلك الوقت، فإن حاكمها بأمر من الباى نفسه سمح للأمير بوكلير بالطواف فيها غير أنه منع من زيارة جامعها الأعظم.
وهذا ما حز فى نفسه كثيرا. وقد وصف الأمير القيروان قائلا "كانت هذه المدينة لمدة طويلة عاصمة للإمبراطورية العربية فى إفريقيا ومركزا للعلوم، أما اليوم فهى مشهورة بقداستها وبحذّائيها الذين يصنعون أحذية من الجلد الفاخر تعتبر أجود أحذية فى "بلاد البربر". ولا يرى المرء أجدب وأقحل من المناطق المحيطة بهذه المدينة، وإنه ليصعب علينا الآن أن نتصور أن هذه المقاطعة كانت فى العصور السالفة خصبة ومزدهرة، حسبما وصفها لنا المؤلفون القدامى، والدليل على ذلك هو ما نجده فى أماكن أخرى من بقايا عديدة لمدن كبيرة.
ومن القيروان سارت قافلة الأمير كلير إلى الجم حيث المسرح الرومانى الشهير. بعدها واصلت سيرها باتجاه صفاقس عبر طريق يقطع أرضا أقفر من الصحراء، تنتصب فيها أشجار زيتون عجاف أو يابسة تماما، منتشرة هنا وهناك كأنها مكانس.
وعند وصول القافلة إلى أبواب مدينة صفاقس، يشاهد الأمير بوكلير مئات من البشر والخيول والحمير منشغلين بدارس الحبوب. ولا يتم هذا بترك الدواب فحسب تدوس السنابل بحوافرها، بل كذلك باستعمال عربة من نوع خاص، من تحتها ما بين اثنتى عشرة وست عشرة من الاسطوانات العريضة تجرها أربعة جياد مشدودة فى صف واحد وكأنها عربة النصر، وقد تبوّأ أعلاها سائق، كان يطوف بها فى أبهة واعتزاز.
وفى صفاقس يتمتع الأمير بوكلير بالقيام بجولات قصيرة فى بساتين الضواحى الغناء التى تنبت فيها تقريبا كل الأشجار المثمرة المعروفة فى أوروبا إلى جانب أشجار التين واللوز والزيتون والرمان والعنب وحتى الأزهار اليانعة. وقد احتار الأمير كثيرا فى أمر هذه الخصوبة العارمة.
ومن صفاقس، اتجهت قافلة الأمير إلى سوسة مارة ببلدة الشابة وجبنيانة ومدينة المهدية التى بناها الفاطميون وجعلوها عاصمة لهم عوضا عن القيروان.
وعند وصول القافلة إلى سوسة، كتب الأمير يقول "سوسة هى حسب المؤرخين "حضرموت" القديمة التى طالما اختلفت الآراء بشأن موقعها.
إن معالم سوسة الأثرية التى تعلو المدينة الحالية شيئا ما وتقع على مسافة قريبة منها، وسط غابة من أشجار الزيتون، ليست عديدة، لكنها عجيبة. فهى "باستثناء بعض البقايا لخزانات مياه لا قيمة لها" تتمثل فى جزئى سور عظيمين ملقيين على الأرض بحيث يخال المرء نفسه أمام صخرتين سقطتا من السماء، لا أمام بقايا سور شيدته يد الإنسان ولا يفهم الغرض من بناء أسوار على ذلك السمك "..." ويوجد فى المدينة نفسها فى دير إسبانى قديم أصبح فى ما بعد مسجدا ويستخدم حاليا كثكنة للقوات النظامية الحديثة، عديد من الأعمدة من الصوان، بعضها أملس، والبعض الآخر مجعّد. وامتاز من بينها عمودان دلاّ على أنهما من أصل قديم جدا، قد يعود إلى عهد سابق للعهد القرطاجني".
بعد سوسة، توغلت القافلة من جديد فى بادية القيروان. وقد لاحظ الأمير بدهشة كبيرة أن سكان هذه البادية يتميزون بنوع من التفتح. ومما لفت انتباهه بالخصوص ظهور العديد من الفتيات الشابات أمام الخيام، وخروج النساء للعمل خارج البيوت. بل إن امرأة جميلة بوشم بديع الهيئة دخلت عليه بينما كان يستريح فى الخيمة وفرشت أمامه غطاء صوفيا فيه أثر حرق وهى تخاطبه بفيض من الكلام والإشارات لم يفقه منها شيئا.
وعند وصول القافلة إلى "دوار" بربري، كتب الأمير يقول "مع بزوغ القمر بلغنا هدفنا الذى لم يكن نائيا هذا اليوم. هو "دوّار" يعتبر على غرار أهله من أليق "دواوير" بلاد البربر وأنظفها، لم تكن الخيام مرتبة على النسق الدائرى كالمعتاد بل مصطفة صفين مترادفين، أولهما وأقلهما امتدادا لشيوخ القبيلة وقائدها، وارث خطته والذى يحكم بمعية أخويه ما يربو على عشرين ألفا من رجال العرب، والصف الخلفى لعامة القوم.
وهناك أيضا على حدة خيمة متفردة تقوم مقام مدرسة، كما توجد أخيرا خيمتان إضافيتان لإيواء الضيوف. وكان "القايد" نموذجا من أروع النماذج البشرية التى خلدتها ريشة الفنان "رفائيل" تجسّم فى صورة هذا الرجل الوسيم وصار حيا يرزق".
استغراق فى الهذيان
اقتربت القافلة من الحدود الجزائرية، وتعرضت لمخاطر جمة غير أن الأمير ظل محافظا على حماسه ورباطة جأشه. وبهدوء راحت القافلة تصعد باتجاه الشمال قاطعة غابات كثيفة وجبالا وعرة وأودية خضراء. وكلما تقدمت القافلة فى السير ازدادت الطبيعة روعة وامتدت الغابات الخضراء من جميع الجهات إلى ما لا نهاية. وعند وصول القافلة إلى تونس، اتصل الأمير بوكلير بالباى من جديد ليقدم إليه خالص شكره على المساعدات التى قدمها له، والتى خولت له القيام بتلك الجولة الرائعة والمفيدة والتى لم يكن أى أوروبى قادر على القيام بها فى ذلك الوقت.
وقبل أن يرحل عائدا إلى ألمانيا، أصيب الأمير بوكلير بحمى وعانى من ذلك الويلات. وينعكس هذا الاعتلال على الصفحات الأخيرة من الكتاب حيث يلاحظ القارئ أن الأمير يستغرق أحيانا فى الهذيان، فيصبح عندئذ التمييز بين الخيال والواقع أمرا عسيرا.
وواصفا وضعه الصحي، كتب الأمير يقول "إن جسمى يزداد وهنا والكآبة تتملكنى أكثر فأكثر! أما أعصابى فقد صارت سريعة التوتر إلى درجة أنى حسب الحالة يتملكنى فى الحين الفزع أو التبرم أو الحنق، بمجرد أقل التغيرات. لكن رغم هذا الضعف فإن رأسى لا يزال يقوم بوظيفته وأتمنى أن يواصل كذلك إلى آخر لحظة وإلا فإننى أفضل أن يتهشم قبل أن يمتنع عن الامتثال لإرادتي".
وعندما شعر بأن صحته تحسنت، غادر الأمير بوكلير تونس فى غضون الأسبوع الأول من شهر نوفمبر 1835 ومعه مخطوط رحلته إلى البلاد التونسية والذى سيصدر كما أسلنا الذكر تحت عنوان "رحلة سميلا سو فى إفريقيا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.