تبعث الأوضاع المتوترة في الشرق الأوسط على الانشغال بسبب تأثيرها على أسعار النفط في السوق الدولية، بعدما كانت أحداث سابقة أفضت إلى زيادة فاتورة واردات البلاد والتسبب في ضغوطات على كلفة المحروقات. وفي الوقت الذي كان مراقبون ينتظرون مزيد تحسن رصيد ميزانية الدولة للعام الحالي بعد أن تراجع سعر برميل النفط إلى ما دون 70 دولاراً، تدفع الأنباء الواردة من الشرق الأوسط، إلى التساؤل حول المستوى الذي يمكن أن يصل إليه سعر النفط. مؤشرات دليلية تشير عدة معطيات إلى انه إذا طال أمد الحرب وتوسعت، وجرى ضرب مصادر الطاقة والممرات المائية، فإن سعر برميل النفط سيحلق عالياً وربما قد تعرف بعض الدول ذات الموارد النفطية المحدودة، توسعا في العجز الطاقي. في هذا الصدد، تبدي الأوساط الاقتصادية في تونس اهتماما بالارتدادات السريعة للتوتر في الشرق الاوسط والتأثيرات المرتقبة على سلاسل التوريد وأسعار الطاقة على الميزانية العامة للبلاد التي تمكنت الى حد بعيد من تجاوز تأثيرات الجائحة الصحية والحرب الروسية الأوكرانية. وخلال السنوات الماضية، جابهت تونس عدة تحديات في علاقة بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي تسببت في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء ما أدى إلى ضغوطات على رصيد الميزانية وزيادة حاجيات البلاد لتعبئة موارد مالية داخلية وخارجية لتأمين توريد المواد الأساسية. هذا وتمكنت البلاد خلال الثلاثي الأول من العام الحالي من الحفاظ على توازنات المالية العمومية وتحقيق فائض بقيمة ملياري دينار خلال الأشهر الثلاثة الاولى من 2025، ما يُمثّل زيادة، في هذا الفائض، ب 74%، مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2024 مستفيدة من استقرار أسعار النفط والغذاء في السوق العالمية منذ بداية السنة. تحديات ورهانات غير أن سيناريوهات تسجيل تقلبات في رصيد الميزانية باتت أقرب حسب عدة مؤشرات، نتيجة تأثير التوترات الجيوسياسية على أداء الاقتصاد العالمي، خاصة في منطقة الشرق الأوسط. ومن الوارد أن يؤدي تزايد وتيرة النزاعات الإقليمية إلى تعميق حالة عدم اليقين في العالم، بما يؤثر على آفاق الاستثمار، وعلى تدفقات رؤوس الأموال نحو الأسواق الناشئة. ومن المحتمل كذلك أن يتسبب ارتفاع أسعار الطاقة دوليا في احداث دورة تضخم ويؤدي إلى زيادات كبيرة في أسعار السلع والخدمات حيث رجحت تحاليل خبراء البنك الأميركي متعدد الجنسيات للخدمات المالية "جي بي مورغان" ارتفاع سعر برميل النفط إلى 120 – 130 دولارا نتيجة الوضع في الشرق الاوسط. ومن الوارد، في ذات السياق، أن تواجه عدة بلدان أيضاً تأثيرات ارتفاع كلفة شحن التي ستنعكس على الأسعار النهائية عند الاستهلاك. ورغم المخاطر المتعددة التي تحدق بالاقتصاد، فإن هذه الأزمة توفر فرصاً ينبغي اغتنامها، شريطة اعتماد سياسات مرنة واستباقية. في هذا الإطار، من المرتقب أن يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة التكاليف العالمية إلى إعادة تشكيل خريطة التموقع الصناعي والاستثماري، مما يتيح لتونس إمكانية لعب دور بديل في بعض سلاسل القيمة العالمية، خصوصا في القطاعات ذات القيمة المضافة المتوسطة مثل الصناعات الإلكترونية، والتجميع، والصناعات الدوائية. كما أن حالة التوتر في منطقة الشرق الأوسط ستعيد توزيع حركة السياحة في المنطقة بشكل عام، وهو ما يخدم تونس بشكل غير مباشر عبر تحويل جزء من السياح في العالم نحو دول جنوب المتوسط ومن بينها تونس. ومنذ بداية السنة الحالية ترسم سلطات الإشراف توقعات متفائلة بتحقيق نسبة نمو اقتصاد تصل إلى 3.2% مع نهاية العام الحالي وسط بلوغ هذه النسبة 1.6% خلال الثلاثي الأول من السنة. ومن المهم أن تبادر السلطات بتفعيل دور هياكل الرصد الاقتصادي وتقديم تنبؤات دقيقة لتوجيه السياسات وتنسيق أكبر بين السياسة النقدية والمالية لحماية التوازنات الكبرى دون خنق الدورة الاقتصادية. كما انه من الضروري مزيد استغلال موقع تونس الجغرافي القريب من أوروبا لجذب استثمارات وتحسين مناخ الأعمال وتسهيل الإجراءات للمستثمرين الأجانب، خاصة في القطاعات الحساسة لسلاسل القيمة كالصحة والغذاء والخدمات الرقمية. ولتيسير ذلك، فإنه من المهم إطلاق خطوط تمويل خاصة للمؤسسات المتأثرة بتقلّبات الأسواق العالمية، وتقديم حوافز للمؤسسات التي توفّر بدائل محلية للمواد أو المنتجات المستوردة بأسعار مرتفعة.