صدر صباح اليوم الخميس 26 جوان إنذار مالي جديد في ظلّ وضعية ميزانية تشهد توتراً متزايداً: إذ بلغت الديون العمومية الفرنسية 114% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الثلاثي الأول من سنة 2025، بحسب الأرقام الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء (Insee). ويُقدّر إجمالي الدين حالياً ب3345,8 مليار يورو، مقابل 3305 مليارات في نهاية سنة 2024، أي بزيادة تُناهز 40,5 مليار يورو في ظرف ثلاثة أشهر، ما يعزز المسار التصاعدي المقلق للمديونية. تأتي هذه المعطيات بالتزامن مع انعقاد اللجنة الثانية للإنذار بشأن المالية العمومية في وزارة الاقتصاد بباريس (بيرسي)، حيث يواجه الوزراء صعوبات في إيجاد هوامش للادخار في ظل آلة ميزانية تزداد تفلتاً. وقد بلغ الدين الفردي ما يقارب 48,800 يورو لكل مواطن، مقابل 48,000 يورو قبل ثلاثة أشهر، حسب ما أكده في ماي الماضي رئيس محكمة الحسابات، بيار موسكوفيتسي. دين انفجر منذ سنة 2017 منذ وصول إيمانويل ماكرون إلى الحكم في 2017، قفز الدين العام بأكثر من 1000 مليار يورو. فقد كان يمثل آنذاك "فقط" 98,9% من الناتج المحلي، بينما ارتفع في ظرف عام واحد من 110,7% إلى 114%، وهو ما يعكس الصعوبة الكبيرة في كبح دوامة مالية تتسم بعجز مستمر ونمو اقتصادي متباطئ. وفي الوقت نفسه، شهدت كُلفة خدمة الدين (الفوائد التي تدفعها الدولة) قفزة كبيرة، إذ ارتفعت من 35 مليار يورو سنة 2018 إلى 58 مليار يورو سنة 2024، في سياق تزايد حاد في نسب الفائدة، ما يضاعف الضغط على الميزانية العامة. ضغط متزايد من وكالات التصنيف وتُصبح الصورة أكثر خطورة عندما نأخذ بعين الاعتبار احتمال تخفيض التصنيف السيادي لفرنسا. فقد حافظت وكالة ستاندرد آند بورز على تصنيف "AA" مع نظرة سلبية في نهاية ماي، لكن وكالة فيتش قد تُعيد النظر في تقييمها يوم 12 سبتمبر. وإذا نزل التصنيف إلى فئة "A"، المصنّفة ك"جودة متوسطة"، فإن كلفة تمويل الدولة سترتفع تلقائياً، خصوصاً وأن بعض المستثمرين المؤسسيين لا يُسمح لهم بشراء سندات تقلّ تصنيفاتها عن "AA". مصدر من وزارة الاقتصاد صرّح قائلاً: "نحن نمشي على حافة الهاوية". وأضاف: "أي تصنيف سلبي سيُضعف توقيعنا المالي وسيزيد من كلفة خدمة الدين". نموذج اجتماعي تحت التهديد من جهته، لم يتردد فرانسوا بايرو، منذ عدة أشهر، في وصف الدين بأنه "سيف ديموقليس" يهدد النموذج الاجتماعي الفرنسي. أما جان-فرانسوا هوسون (عن الجمهوريين)، المقرر العام للجنة المالية في مجلس الشيوخ، فقد تحدّث بصراحة عن "كارثة شبه مؤكدة". وتتجه أنظار الجميع إلى شهر سبتمبر، حيث سيُقدَّم مشروع ميزانية 2026، في محاولة لإقناع كلّ من وكالات التصنيف والبرلمان. وتسعى الحكومة إلى خفض العجز إلى 4,6% من الناتج المحلي، وهو هدف صعب المنال في غياب النمو أو انتعاش الاستهلاك. نمو ضعيف وحذر شعبي متزايد هنا يكمن جوهر المشكلة: فالتوقعات الاقتصادية لسنة 2025 تُراجَع باستمرار نحو الأسفل. فبعد أن كانت التقديرات عند 1,1%، خفّضتها وزارة الاقتصاد إلى 0,9% ثم 0,7%، واليوم يتحدث بعض الاقتصاديين عن 0,6% فقط. ومن بين الأسباب الرئيسية لهذا التراجع، قرار حل البرلمان المفاجئ الذي اتخذه ماكرون قبل عام، والذي ساهم في زيادة حالة عدم اليقين الاقتصادي. ووفقاً لمكتب Allianz Trade، فقد تسبّب ذلك القرار في اقتطاع 0,2 نقطة من النمو، أي ما يُعادل خسارة 2,9 مليار يورو من العائدات الضريبية. يُضاف إلى ذلك اتساع الفارق (spread) في نسب الفائدة مقارنة بألمانيا، ما كلّف الدولة مليار يورو إضافي في خدمة الدين. وفي المجمل، فإن الدولة بحاجة إلى توفير ما لا يقل عن 4 مليارات يورو لتغطية هذه الخسائر. استهلاك محتشم ومدخرات قياسية أما في ما يخصّ الاستهلاك الأسري، الذي تعوّل عليه وزارة الاقتصاد لتحريك النمو، فلا يزال الفرنسيون متحفّظين. فقد بلغت نسبة الادخار 18,8% من مداخيلهم في الثلاثي الأول، وهو أعلى مستوى منذ 45 سنة (باستثناء فترة الأزمة الصحية). كما تجاوزت مدخراتهم المالية – باستثناء العقارات – 4500 مليار يورو. ويعلّق أحد أعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الاشتراكي ساخرًا: "إذا أردنا منهم أن يستهلكوا أكثر، فلا بد أن يشعروا بحاجة أقل إلى الادخار لحماية أنفسهم... لكن هذه المدخرات هي نفسها التي تُستخدم لتمويل الدين عبر التأمين على الحياة!". فرنسا في قلب العاصفة الاقتصادية وهكذا، مع بلوغ الدين العام 114% من الناتج المحلي وركود النمو، تدخل فرنسا مرحلة اضطرابات مالية وسياسية دقيقة. الأسابيع القادمة ستكون حاسمة: من ترشيد الميزانية، إلى رد فعل الأسواق، مروراً بقرارات وكالات التصنيف، كلّ ذلك سيكون حاسماً في تحديد ملامح المستقبل المالي للبلاد. وما هو مؤكّد: زمن الحلول المؤقتة قد ولّى.