في خطوة قد تهزّ أحد أكثر المشاريع الاستراتيجية في صناعة التكنولوجيا العالمية، أمرت مجموعة فوكسكون التايوانية، المجمّع الرئيسي لهواتف آيفون لحساب شركة آبل، مئات المهندسين والفنيين الصينيين بمغادرة الهند، مما يهدد خطة تنويع سلاسل التوريد بعيدًا عن الصين. وبحسب ما نقلته وكالة بلومبرغ، فقد غادر أكثر من 300 موظف صيني منشآت فوكسكون الواقعة جنوبالهند خلال الشهرين الماضيين، استجابة لطلب مباشر من الشركة، دون تقديم أي تفسير رسمي، رغم أن السياق الجيوسياسي يبدو أنه يلعب دورًا محوريًا. انتكاسة لطموحات آبل في الهند يأتي انسحاب المهندسين في وقت تسرّع فيه آبل خطواتها لتقليص اعتمادها على الصين، من خلال نقل جزء متزايد من إنتاجها إلى الهند، التي أصبحت محورًا رئيسيًا في هذه الإستراتيجية. وتشير التقديرات إلى أن نحو 20% من أجهزة آيفون يتم تجميعها حاليًا في الهند، وهو رقم في تصاعد مستمر. بل وتخطط الشركة لإنتاج غالبية أجهزة آيفون الموجّهة للسوق الأميركية في الهند بحلول نهاية عام 2026. وكان للمهندسين الصينيين دور جوهري في هذه العملية، حيث يمثلون العمود الفقري لنقل التكنولوجيا وتدريب الفرق المحلية. لكن مغادرتهم المفاجئة من شأنها أن تبطئ وتيرة تأهيل اليد العاملة الهندية، وقد تؤدي إلى زيادة في تكاليف الإنتاج بسبب التأخير والحاجة إلى تعديلات لوجستية وتقنية. بكين تشدّد قبضتها على مواردها الاستراتيجية يتزامن هذا القرار مع تصاعد الضغط من الحكومة الصينية على الشركات المحلية العاملة خارج البلاد. ووفقًا لتقارير بلومبرغ، فقد صدرت تعليمات غير رسمية للسلطات المحلية في الصين لضبط حركة نقل التكنولوجيا ومنع تصدير المعدات الحساسة إلى دول مثل الهند وفيتنام. ويبدو أن الصين، التي تواجه انسحابًا تدريجيًا من قبل الشركات متعددة الجنسيات، تسعى لعرقلة خطط نقل الصناعة عبر فرض رقابة أشد على الكفاءات البشرية، والمواد الخام الاستراتيجية، والمعدات عالية التقنية. سياق جيوسياسي معقّد بين واشنطنوبكين ونيودلهي لا تزال التوترات بين الولاياتالمتحدةوالصين، التي بدأت خلال إدارة ترامب الأولى، تؤثر بشدة على سلاسل التوريد العالمية. وقد أعاد الرئيس ترامب، بعد عودته إلى البيت الأبيض، إحياء سياسات الحماية الجمركية، مما دفع شركات أميركية كبرى مثل آبل إلى إعادة هيكلة عملياتها الصناعية. في المقابل، ترد الصين من خلال فرض قيود على تصدير المعادن النادرة، وتقنيات التصنيع، واليد العاملة المتخصصة. أما الهند وفيتنام، فتسعيان لاقتناص هذه الفرصة، لكن انسحاب المهندسين الصينيين يقوّض قدرتهما على التوسّع السريع. مشروع طموح يصطدم بواقع الصناعة كانت فوكسكون تراهن على نقل سريع لنموذجها الصناعي الصيني إلى الهند، عبر نشر كفاءات بشرية مدربة واعتماد إجراءات إنتاج مثبتة. لكن الاعتماد الكبير على الخبرة الصينية، خاصة في المراحل الدقيقة للتجميع وضمان الجودة، لا يزال عائقًا أساسياً. ويهدد سحب هؤلاء المهندسين بإبطاء إنتاجية فوكسكون، في وقت تعتمد فيه آبل على المصانع الهندية لتلبية الطلب العالمي المتزايد. في المقابل، تبقى آبل مقيدة بتكاليف العمل المرتفعة في الولاياتالمتحدة، ما يجعل شعار "صنع في أمريكا" غير مجدٍ اقتصاديًا على المدى القصير. تحليل: معركة صامتة على السيطرة التكنولوجية انسحاب المهندسين الصينيين من مصانع فوكسكون في الهند ليس مجرد تعديل لوجستي، بل هو جزء من صراع عالمي غير معلن على السيطرة التكنولوجية. ثلاث ديناميكيات رئيسية تكشف أبعاد هذا الحدث: 1. بكين تُبطئ عمدًا نزيف التكنولوجيا من خلال إبطاء تصدير الخبرات، تسعى الصين إلى الحفاظ على موقعها الرائد في سلسلة القيمة الإلكترونية، وثني شركات مثل آبل عن المضي في خططها لنقل الإنتاج خارج الصين. 2. الهند لم تصبح بعد قطبًا صناعيًا مكتفيًا ذاتيًا رغم التصريحات الطموحة، ما زال تكوين كفاءات محلية تتماشى مع معايير آبل يتطلب سنوات، وهو أمر مرهون بتوافر دعم مستقر واستراتيجيات طويلة المدى. 3. آبل عالقة في مثلث جيوسياسي معقّد بين الضغوط الأميركية لإعادة الصناعة إلى الوطن، والتضييق الصيني على الكفاءات، والبنية الصناعية الناقصة في الهند، تجد آبل نفسها أمام معادلة محفوفة بالمخاطر، حيث يؤثر كل قرار في التكلفة والمهل الزمنية… بل وحتى في السيادة التكنولوجية للمجموعة. تعكس هذه التغيرات المفروضة مرحلة حرجة في إعادة التوازن الصناعي العالمي، حيث لم يعد التفوق في الإلكترونيات المتقدمة يعتمد فقط على الابتكار في المنتجات، بل على إدارة الكفاءات البشرية، والتحكم السياسي، وتنظيم تدفقات التكنولوجيا عبر الحدود.