التقط أحد الصحفيين، على مستوى الخروج من المهدية في اتجاه جمّال، صورة لشاحنة تنقل علب مشروبات غازية، بدا عدد منها مكشوفًا تحت أشعة الشمس. الغطاء المخصص لحماية الحمولة لم يكن يغطي سوى جزء منها، ما ترك زجاجات بلاستيكية من الصودا تحت شمس حارقة، في قلب شهر أوت. هذه المشهدية تعكس مشكلة متكررة في تونس : نقل مواد استهلاكية حساسة في ظروف غير ملائمة، خصوصًا في فصل الصيف حين تتجاوز درجات الحرارة 40 درجة مئوية، محوّلة الشاحنات إلى "أفران متنقلة". المخاطر العلمية للتعرض الطويل للشمس على عكس ما يعتقد البعض، فإن المشروبات الغازية في زجاجات بلاستيكية (PET) ليست محايدة أمام الحرارة. و قد حدّد الخبراء عدة مخاطر: تدهور الجودة * يتمدد ثاني أكسيد الكربون داخل الصودا بفعل الحرارة، ما يزيد الضغط و يُسرّع فقدان الغاز. * يمكن أن يتغيّر الطعم بظهور نكهات غريبة ("بلاستيكية" أو "ورقية") نتيجة تفاعلات كيميائية داخلية. هجرة مواد كيميائية * قد تطلق زجاجات PET، عند درجات حرارة مرتفعة، آثارًا من مادة الأنتيموان (مستعمل في تصنيع البلاستيك) والأسيتالديهيد. * رغم أن النسب تبقى ضعيفة، إلا أن معدل الهجرة يرتفع بشكل ملحوظ بعد 40–50 درجة مئوية. * في أوروبا، تحدد معايير صارمة (التشريع الأوروبي 10/2011)، بينما يبقى الرقابة محدودة في تونس. احتمالية تكوّن البنزين * في بعض المشروبات التي تحتوي على مادة "البنزوات" (E211) وفيتامين C، قد تؤدي الحرارة والضوء إلى تكوّن آثار من البنزين، وهو مصنّف كمادة مسرطنة. * كبرى العلامات العالمية غيّرت تركيباتها للحد من هذا الخطر، لكن التعرض للشمس يظل عاملًا مفاقمًا. شيخوخة البلاستيك و الميكروبلاستيك * تسرّع الأشعة فوق البنفسجية من تدهور البلاستيك، ما يزيد من إطلاق الجزيئات الدقيقة. * هذه الأخيرة قد تُستهلك لاحقًا، في حين ما تزال آثارها على صحة الإنسان غير واضحة بشكل كامل. من يتحمل المسؤولية؟ الصورة تطرح سؤالًا جوهريًا : من يتحمل مسؤولية هذه الظروف غير الملائمة للنقل؟ * الناقل: ملزم بحماية الحمولة واحترام شروط الحفظ التي يحددها المعبّئ. * الموزع: مطالب برفض البضاعة التي تظهر عليها علامات تلف (زجاجات مشوّهة أو علب متعرضة للحرارة). * العلامة التجارية (مثل كوكاكولا): حتى وإن كانت المسؤولية المباشرة تقع على الشركاء اللوجستيين، فإن العلامة تتحمل مسؤولية غير مباشرة وأخلاقية. عادةً ما تفرض دفاتر الشروط الداخلية نقلًا محميًا من الشمس وتحت تغطية كاملة، مع عمليات تدقيق دورية. في الحالة التونسية، تُظهر الصورة تقصيرًا واضحًا: حمولة مكشوفة، في تناقض مع المعايير الدولية. المقارنة الأوروبية : ما الفارق ؟ في أوروبا، يخضع نقل و حفظ المواد الغذائية إلى تشريعات صارمة: * اللائحة الأوروبية CE 178/2002: السلامة الغذائية والتتبع. * اللائحة الأوروبية CE 852/2004: النظافة وإدارة المخاطر (HACCP). * اللائحة الأوروبية CE 1935/2004 واللائحة 10/2011: هجرة المواد البلاستيكية الملامسة للغذاء. عمليًا، يتم تطبيق ذلك عبر: * شاحنات مغلقة أو مغطاة بالكامل؛ * استخدام أغطية مضادة للأشعة فوق البنفسجية لتغليف السلع؛ * الحفاظ على درجة حرارة ≤ 25–30 درجة مئوية، مع أجهزة تسجيل حراري مثبتة في الشاحنات؛ * عمليات تدقيق منتظمة وعقوبات مالية عند أي تجاوز. و بالتالي، فإن حمولة مكشوفة تحت الشمس كما في المهدية كانت ستؤدي في أوروبا إلى: * رفض الشحنة عند الاستلام. * عقوبات ضد الناقل. * في بعض الحالات ، سحب وقائي من طرف العلامة التجارية. الحالة التونسية : مشكلة هيكلية في تونس، تعاني السلسلة اللوجستية الغذائية من : * ضعف الرقابة المنتظمة على النقل. * اعتماد ناقلين بشاحنات غير مبرّدة أو مغطاة جزئيًا. * غياب ثقافة التتبع: لا أجهزة قياس حرارة ولا سجلات. * تساهل الموزعين، الذين يفضلون توفر المخزون بسعر منخفض. هذا الوضع يضع المستهلك في الواجهة، إذ قد تصل المنتجات إلى الأرفف وقد أصابها التلف قبل ذلك. مسألة صحة عامة وصورة تجارية حادثة الطريق بين المهدية وجمّال تتجاوز الجانب اللوجستي لتلامس رهانين أساسيين: * الصحة العامة: من غير المقبول أن تتعرض مشروبات يستهلكها الملايين، بينهم أطفال، لظروف قد تعزز هجرة مواد كيميائية. * مصداقية العلامات الكبرى: فهي مسؤولة، ولو بشكل غير مباشر، عن احترام معاييرها الدولية في كل بلد تعمل فيه. نحو ممارسات أكثر أمانًا؟ المشهد الملتقط على طريق جمّال يجب أن يكون جرس إنذار، إذ يؤكد أن: * السلطات التونسية مطالبة بتشديد الرقابة الصيفية على نقل المواد الغذائية؛ * المعبئون والعلامات الكبرى مثل كوكاكولا مطالبون بالتدقيق وفرض المعايير اللوجستية نفسها المطبقة عالميًا؛ * الموزعون مدعوون لرفض أي شحنة تظهر عليها علامات التلف. في أوروبا، مثل هذا الحادث يُعتبر تقصيرًا جسيمًا. أما في تونس فما زال يُنظر إليه كأمر عادي. لكن، ومع درجات حرارة تصل إلى 50 درجة مئوية داخل الشاحنات، نحن أمام خطر صحي كامن، يستوجب التعامل معه بجدية لحماية المستهلكين. تعليقات