علي عكس ما يعتقد البعض، فان ظاهرة الهجرة الداخلية والتحرك السكاني في تونس ببعديه الديمغرافي والاقتصادي لا يرجع الى فترة السبعينات بل ان جذوره الاولى تعود الى ثلاثينات القرن الماضي مع بداية تأثر تونس بالأزمة الاقتصادية العالمية آنذاك . عموما، تعتبر قراءة معطيات الهجرة الداخلية مسالة معقدة نظرا لتعدد المتغيرات وكثافة الاسباب والدوافع لتحرك السكان داخل فضاءات محددة مع ما ينجر عن ذلك من انماط جديدة لتشكيل الثروة وتغير العادات الاستهلاكية والانعكاسات على التوازنات الاقتصادية في بعدها الجهوي. ديناميكية ودوافع عميقة تكشف المعطيات الاحصائية المتعلقة بتوزيع الكثافة السكانية في مختلف أنحاء البلاد أن أكبر تركيز للسكان هو في الجهات الساحلية وتونس الكبرى. وتعد تونس من الدول المتسمة بشكل واضح بديناميكية الهجرة الداخلية لأسباب من بينها البحث عن العمل، والفرص التعليمية، وتحسين مستوى المعيشة، مع بروز معطى جديد هو التغيرات المناخية. ويعتبر البحث عن فرص عمل من الأسباب الرئيسة للهجرة الداخلية، حيث يختار كثير من السكان المناطق التي توفر أكبر عدد من مواطن الشغل ، وعادة ما تكون المدن الكبرى الساحلية. كما تتجه بعض العائلات إلى هذه المناطق التي يكون فيها مؤشر التنمية مرتفعاً مقارنة بمناطق أخرى داخلية، بحثاً عن فرص تعليمية أفضل لأبنائها، مما يؤثر في معدلات الهجرة الداخلية. معطيات دليلية في هذا الاطار، أظهرت نتائج التعداد العام للسكان والسكنى في تونس، التي أفصح عنها المعهد الوطني للإحصاء، الاثنين 29 سبتمبر 2025، تراجع عدد المهاجرين ما بين ولايات البلاد من 430 ألفاً خلال الفترة المتراوحة ما بين 2009 و2014 إلى 228,4 مهاجراً فقط ما بين 2019 و2024. ويعد الشباب في الفئات العمرية ما بين 20 و34 سنة الأكثر نشاطاً في خريطة الهجرة الداخلية، كما تتفوق الإناث على الذكور في حراك الهجرة الداخلية سواء بين الولايات أو داخل الولاية ذاتها. ويشكل الشباب من المستوى التعليمي الثانوي والجامعي الأكثر قدرة على الهجرة الداخلية، بينما يبقى الشريط الشرقي للبلاد وولايات تونس الكبرى الأكثر استقطاباً للوافدين من باقي الولايات. وتتصدر ولايات تونس الكبرى (تونس، بن عروس، أريانة، منوبة) المرتبة الأولى في الولايات المستقطبة للمهاجرين الداخليين، تليها ولايات سوسة والمنستير والمهدية وصفاقس ومدنين. هذا وتشير عدة دراسات الى ان الاسباب الحقيقية الكامنة وراء الهجرة الداخلية تتمثل اجمالا في البحث عن فرص العمل ومواصلة الدراسة والتقارب العائلي، غير ان تحديد هذه المتغيرات قد كان دائما خاضعا للمقاربات الاحصائية المعتمدة على دراسة العينات والاقتصار في دراسة المسالة على الجانب الاقتصادي كدافع رئيسي للتحرك السكاني داخل البلاد. ومع تطور المناهج التحليلية، فقد بدأت تتشكل ملامح متغيرات اكثر دقة اهمها التغيرات المناخية والسعي للقرب من مراكز القرار والبحث عن تجاوز عقبات بعد هياكل الاسناد الادارية. ومن المؤكد، انه على الرغم من عدم تشكيل ظاهرة الهجرة الداخلية في تونس حاليا لتحديات اجتماعية كبرى، لكن تحليل معطيات المدن المستقطبة يبرز مدى تفاقم للضغوطات العمرانية عليها فضلا عن بداية الشعور بتصحر ديموغرافي في عدد من مناطق البلاد لوحظ منذ عقدين تقريبا. تعليقات