من المؤكد أن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي لن يكون سجينًا عاديًا، مجرد رقم مثل باقي المجرمين والمدانين خلف القضبان. ف ساركوزي حالة مختلفة تمامًا، لا سيما وأنه أول زعيم من هذا المستوى يُسجن في الاتحاد الأوروبي. ثم إن أسباب الحكم عليه، وتصرفاته فور صدور الحكم، و من وقفوا بانتظاره صباح الثلاثاء 21 أكتوبر أمام منزله قبل نقله إلى زنزانته في سجن لا سانتي بباريس، كلها تفاصيل جعلت من المشهد لحظة تاريخية بكل المقاييس. ماكرون يُجيد تسييس القضايا… ودارمانان يفشل و لأن السجين استثنائي، كان الصدى استثنائيًا أيضًا. إذ سبق سجنه ب أربعة أيام زيارة قام بها إلى قصر الإليزيه بدعوة من الرئيس إيمانويل ماكرون. الأخير حاول تهدئة الجدل بتبرير اللقاء لأسباب "إنسانية"، وهو تبرير يمكن الأخذ به أو تركه، فليس من عادة الرؤساء أن يستقبلوا المحكومين قبل دخولهم السجن. و مع ذلك مرّت تبريرات ماكرون مرور الكرام، بخلاف ما حدث مع وزير العدل جيرالد دارمانان، الذي لم يُحسن التعامل مع الموقف. الوزير، المنحدر من اليمين (وكان جمهوريًا حتى عام 2017)، أعلن بتفاخر أنه سيزور ساركوزي في زنزانته، موضحًا أنه سيفعل ذلك "بصفته وزيرًا للعدل فقط". غير أن المبرر بدا ضعيفًا، فوزير العدل لا يزور عادة جميع السجناء. و المشكلة أن دارمانان يُحوّل كل تحرك يقوم به إلى عرض سياسي يخدم طموحه الرئاسي لعام 2027. أعلى سلطة قضائية تُحذّر لكن هذه المناورة لم تمر مرور الكرام، إذ أثارت استياء المدعي العام لدى محكمة النقض، ريمي هيتز، وهو أعلى سلطة قضائية في فرنسا. الرجل عبّر بوضوح عن رفضه لمشروع دارمانان، و قال إنه "ليس من شأنه التعليق على تصريحات وزير العدل"، لكنه دعا هذا الأخير إلى التحلي بالاعتدال في التعاطي مع هذا الوضع "غير المسبوق". وأضاف في تصريح لإذاعة فرانس إنفو: "الهدف بالنسبة للجميع يجب أن يكون الحفاظ على الهدوء والسكينة لتمكين العدالة من العمل باستقلالية تامة." و ذكّر بأن القضاة لم ينتهوا بعد من البت في قضية ساركوزي الذي استأنف حكمه في قضية التمويل الليبي، مشددًا على ضرورة أن يعمل القضاء "بعيدًا عن أي ضغط أو تأثير". وأوضح أن "مثل هذه الزيارة قد تُعتبر من الرأي العام شكلًا من أشكال التدخل في سير العدالة وتهديدًا لهدوئها المطلوب". ما موقف ساركوزي من كل هذه الضجة؟ و رغم أن هيتز لا يرى في زيارة دارمانان "إهانة للحكم القضائي"، إلا أنه يعتبرها تهديدًا لاستقلال القضاء، مؤكدًا: "يجب حماية عمل القضاة من أي تأثير خارجي، خصوصًا في قضية بهذه الحساسية." و تحت ضغط الجدل، اضطر دارمانان إلى التعليق عبر منصة X (تويتر سابقًا)، قائلاً: "الحرص على سلامة رئيس سابق للجمهورية داخل السجن، وهو أمر غير مسبوق، لا يمس استقلال القضاء، بل يدخل ضمن واجبي في اليقظة كرئيس للإدارة القضائية." لكن هذه التبريرات لم تُقنع المدعي العام ريمي هيتز، الذي لم يخفِ معارضته لموقف الوزير. أما ساركوزي، فبعيد عن كل ذلك، إذ لا يشغله سوى الخروج بأسرع ما يمكن من زنزانته الضيقة التي لا تتجاوز تسعة أمتار مربعة في ما يسمى ب"الحيّ الخاص"، وهو ما وصفه المقربون بأنه "إقامة لا تُطاق". وتُطرح الآن إمكانية حصوله على عفو رئاسي، غير أن الاحتمال الأقرب هو قبول طلب الإفراج المؤقت. وأكد هيتز مجددًا: "يجب أن تتم دراسة طلب الإفراج في ظروف هادئة تمامًا، بعيدًا عن أي تدخل خارجي." و في خضم عام قضائي 2026 المكتظ، تلوح ملفات أخرى حساسة، أبرزها محاكمة مارين لوبان في الاستئناف بعد إدانتها باختلاس أموال أوروبية، وهي إدانة تُقصيها حاليًا من السباق الرئاسي المقبل. وفي مواجهة هذه القضايا الملتهبة، لا سيما ملف لوبان، دعا المدعي العام لدى محكمة النقض الجميع إلى التحلي بضبط النفس في تصريحاتهم، لتجنّب "إشعال الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي" و"التهديدات المباشرة ضد القضاة". أما وزير العدل دارمانان، الذي تجاوز الخط الأحمر بتصرفه، فقد قدّم نموذجًا سيئًا – ويُخشى الآن أن يجد من يقتدي به. تعليقات