بقلم رضا الزهروني : عندما يعد الوزير بولادة المدرسة الجديدة: فهل حان وقت المخاض؟ بادئ ذي بدء يجب عليه الإقرار بالحالة الحرجة لمنظومتنا التربوية التونسية عامة ولمدرستنا العمومية بالخصوص. كل المؤشرات توكد خطورة وضعنا التربوي والحالة المتهاوية لأداء نظامنا التعليمي وخاصة منها المتعلق ب: – استقرار النسب السنوية للمنقطعين عن الدراسة في حدود 50 بالمائة من تلاميذ نفس الفئة العمرية. وهي تضاهي أربع مرات على الأقل نسب الانقطاع بمنظومات تربوية متوسط الأداء. حوالي 100 ألف منقطع سنويا ومنذ أكثر من أربعة عقود وما يتسبب فيه خسارة لا يمكن تقديرها خاصة من النواحي الإنسانية والاجتماعية وحتى المادية. – تراجع خطير لنسبة التمدرس مقارنة بما كانت عليه في سنة 2012. فالإحصاء العنقودي متعدد المؤشرات لسنة 2023 قدر هذه النسبة ب 6 نقاط لتبلغ 8 بالمائة من أطفال تونس خارج المنظومة التعليمية مقابل 4.5 بالمائة حسب ما اظهره التعداد العام للسكان والسكن لسنة 2014. وهذا يعني ان ما بين 9 ألاف و16 ألف طفل تونسي لا يلتحقون مع بداية كل سنة دراسية بمقاعد الدراسة لأسباب من المفروض أن تكون معلومة عند أصحاب القرار. – انهيار نسب النجاح في كلّ الامتحانات الوطنية. وهي لا تتجاوز اليوم 20 بالمائة من تلاميذ نفس الفئة العمرية في أفضل الحالات مقارنة ب 90 بالمائة بالنسبة لامتحان الباكالوريا ببلدان غربية لها أنظمة تربوية متوسطة الأداء. – ازدهار تجارة الدروس الخصوصية وارتفاع صاروخي لرقم معاملاتها. رقم يتراوح اليوم بين 1.5 و3 مليار دينار حسب منظمات مختصة. – تنامي ظاهرتي الانحراف والعنف المدرسي من حيث تواتر الحالات ودرجة خطورتها. حالات تعد اليوم بالآلاف وتصل حتى إلى القتل والانتحار عند المربين والتلاميذ. مع الإشارة في نفس السياق والتذكير بانّ "مُنظمة التّعاون والنموّ الاقتصادي OCDE(1)" انطلقت منذ سنة 1992 في تنفيذ "البرنامج الدّولي المتعلق بمتابعة المستوى المعرفي للتّلاميذPISA(2) " ليكون مرجعا في مجال التّربية والتّعليم وآليّة على ذمة أصحاب القرار يلتجؤون إليها عند بلورة السياسات والإستراتيجيات والبرامج الهادفة إلى النهوض بأنظمتهم التربوية والتّعليمية. ويسعى هذا البرنامج من خلال اختبار عينات من الشباب معدّل أعمارهم 15 سنة ومُمثّلة لكل الدول المشاركة إلى تقييم المستوى المعرفي للتلاميذ في موادّ التّعبير الكتابي والرياضيات والعلوم وإلى تقييم مؤهلاتهم لتوظيف معارفهم لإيجاد الحلول لجملة من الإشكاليات التي يتم طرحها. وشاركت تونس في هذا البرنامج في نسختيه لسنتي 2012 و2014 واحتلت مراتب متأخرة جدا مقارنة ببقية الدول ليبلغ الفارق في "المعدل العام للمستوى" لتلاميذنا بسنتين ونصف دراسة في مواد العلوم والرياضيات والتعبير الكتابي مقارنة بالمعدل العام للمستوى لتلامذة بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ويصل هذا الفارق إلى ستّ سنوات دراسة في مادة الرياضيات وأربع سنوات ونصف في مادتي العلوم والتعبير الكتابي مقارنة بتلاميذ "شنغهاي" ولها نظام تعليمي من ضمن الأنظمة الاكثر تميزا في العالم. وعوضا عن اخذ القرارات اللازمة لمعالجة الوضع اختار المشرفون على قطاعنا التربوي الخروج من البرنامج بعد سنة 2014. وبالرغم من تناول كل الأرقام والمؤشرات المذكورة في عديد التقارير الوطنية والدولية المختصة وبالرغم من توفرها بأكثر دقة لدى المصالح المعنية بوزارة التربية منذ عديد السنوات، يعمل الخطاب الرسمي لسلطة الاشراف دائما ليكون مطمئنا للرأي العام. وهو خطاب يتعنت في تقديم الوعود على غرار ولادة المدرسة الجديدة والصور الجميلة للتعليم العمومي عند اعتماده قاعدة عدد المترشحين لاحتساب نسب النجاح في الامتحانات الوطنية وابرازه أعلى المعدلات والنجاحات الفردية والاستثنائية على المستوى الدولي وتضخيمه بعض الإنجازات المادية. "معزة ولو طارت" هو مثل شعبي يعني الإصرار على الخطاء والعناد والتمسك بالراي رغم وضوح الحقيقة ودحضها بالأدلةَّ. وبضيف الذكاء الاصطناعي ان هذ المثل يستخدم للدلالة على العناد وعدم التراجع عن موقف الخطاء حتى عندما يثبت بشكل ثابت. عديد هم أبناء هذا الوطن ومن ضمنهم من يعتبر نفسه من النخبة يرى ان الوضع الحالي هو عادي ويفرضه علينا الواقع الاجتماعي والاقتصادي عندما نأخذ بعين الاعتبار ارتفاع نسبة البطالة خاصة عند أصحاب الشهادات العلياء وكأنّ الفشل أصبح الحل لهذا الواقع. ويوجه الرأي العام في أغلبيته وكل من موقعه اللوم على الأطراف التي تباشر يوميا الفعل التربوي. فيرى البعض ان الجيل الحالي من أبنائنا وبناتنا هو عنيف وعديم التربية والاجتهاد. ويرى البعض الآخر ان المدرسين هم السبب في كل العلل التي تعاني منها منظومتنا التربوية من خلال سلعنة التعليم والبحث على الدروس الخصوصية. في حين يحمل آخرون المسؤولية إلى الاولياء بسبب عجزهم على تربية أبنائهم وبناتهم على وتعنتهم الركوض وراء ارفع المعدلات. ويتجاهل جميعهم ان هذه الاطراف الثلاث هي من ضمن ضحايا المنظومة التربوية الحالية. فلا التلميذ قادر على النجاح في المنظومة في أدائها الحالي، عندما لا تترعرع داخله الا العواطف السلبية مثل الاعتقاد في حتمية الفشل والياس والخوف من المستقبل والثورة على كل ما هو رمز للانضباط. ولا المدرس قادر على أداء مهمته على الوجه المطلوب، عندما تكون اقسام مكتظة والبرامج بالية اكل عليها الدهر وشرب وعندما تتجاهل التنظيمات البيداغوجية والأنظمة التقييمية التطورات الحاصلة في مجال العلوم التربوية. ولا الاولياء يمكنهم ان يعتمدوا سلوكا يجهلونه وان يعطوا ما لا يمتلكونه ماديا وفكريا. فأولياء اليوم هم أطفال الامس وأطفال اليوم هم أولياء الغد ومن الغباء الاعتقاد في امكانية إصلاح وضع الأبناء لما نفشل في اعداد الأطفال ليكونوا اباء. جل أسباب انهيار منظومة واضحة وجلية للعقول المسؤولة. فهي في بداياتها نتيجة حتمية لاختيارات خاطئة تم إقرارها منذ اصلاحي 1991 و2002 ولمواصلة التعنت في الإبقاء عليها إلى اليوم. وهي نتائج تحولت بدورها إلى أسباب جانبية إضافية زادت في تعقيد الوضع خاصة ما هو متعلق بالإبقاء على نفس نسب الانقطاع المبكر عن الدراسة وتنامي ظاهرتي الدروس الخصوصية والعنف المدرسي. فمدرستنا اليوم بإمكانياتها الحالية غير قادرة على البلوغ بالتلاميذ إلى المستوى الأدنى في القراءة والكتابة والحساب في اللغتين العربية والفرنسية ليتسنى لهم مواصلة مسارهم الدراسي بأريحية وبصفة طبيعية. وهو السبب الرئيسي للانقطاع المبكر عن الدراسة ولهجرة شعبة الرياضيات والتي لا يتجاوز عدد المترشحين بها إلى امتحان الباكالوريا 5 بالمائة بالرغم من انها الشعبة التي تسجل اعلى نسب النجاح. وهي مدرسة عمومية لم يعد التعليم فيها مجاني ولم تعد مصعد اجتماعيا ولا قادرة على ضمان شرط تكافئ الفرص وهي في وضعها الحالي تدعم في الفوارق بين مختلف فئات المجتمع وجهات البلاد. فالنجاح أصبح متاحا للقادرين على الاستثمار في الدروس الخصوصية ويبقي ابناء العائلات المعوزة والجهات المهمشة وبناتها داخل مربع الفشل. وهي مدرسة غير قادرة على ضمان استقرارها وفرض الانضباط داخل اسوارها والامن لتلاميذها وغير قادرة على توفير المتطلبات الأساسية للحياة المدرسية بالعديد من مؤسساتها. مازلنا نرى اسوارها وأسقفها تتداعى وما زال الماء الصالح للشراب يصلها بواسطة الجرارات والخزانات وما زالت عاجزة على وضح حد لتواتر ازماتها بسب داوم الصراع بين سلطة الاشراف والنقابات. اختارت الاطراف النقابية استغلال الوضع خلال العشرية الفارطة لتنفيذ العديد من مناوراتها وكان دائما التلميذ ضحيتها بالأساس. واعتمد كل المسؤولين الذي تداولوا عل رأس وزارة التربية سياسات التعامل اليومي مع الشأن التربوي والبحث على ادارة الازمات بأقل الاضرار. وتجاهل الجميع النتائج والمؤشرات وما يتطلبه الوضع من إصلاحات جذرية مستعجلة ومن تشريك كل الاطراف والاختصاصات المعنية. فالتربية والتعليم شأن وطني ومجتمعي بامتياز يرتقي الى مستوى الأمن القومي. ومن غير الاخلاقي والإنساني ومن غير المسؤول أن نتمادى في وعودنا ونواصل صمتنا على إقصاء فئة كبيرة من ابناء هذا الوطن وبناته من حقهم في التربية والتعليم ومن الأمل في النجاح والتطلع الى ما هو أفضل لا لكونهم اقل ذكاء مقارنة بغيرهم من أطفال تونس وحتى اطفال العالم بل بسبب وضعهم العائلي أو الاجتماعي أو الجهوي فحسب. تقصيرا جماعي نتحمل مسؤوليته من أطراف مساهمة في الفعل التربوي ونخب ومختصين واولياء ومجتمع مدني واعلام. فلا مستقبل لاي مجتمع يقف مكتوف الأيادي وهو يشاهد مدرسته تنهار يوما بعد يوما. * PISA : Programme International pour le Suivi des Acquis des élèves. * OCDE : Organisation de Coopération et de Développement Economique, تعليقات