تنهار دولة مالي يوماً بعد يوم، وتتداعى أكثر فأكثر... الوعود التي أطلقها الانقلابيون ذهبت أدراج الرياح و تفاقم انعدام الأمن قضى عليها نهائياً. الجنرال المعلن نفسه رئيساً للجمهورية إلى أجل غير مسمّى، عاصمي غويتا، كان يصرخ بأن فرنسا مسؤولة عن كل مصائب البلاد. الجميع كان يدرك أن هذا مجرد خطاب دعائي زائف ، لكن الشباب صدّقوه و انساق خلف مسرحيته القاتمة. طُردت القوات الفرنسية وسط الهتافات، فبدأت معها رحلة الانحدار البطيء نحو الجحيم بالنسبة للشعب المالي. هذه المرة باماكو لا يمكنها استدعاء باريس كما فعلت عام 2013 تدهورت الأوضاع إلى درجة أنّ المتمرّدين والجهاديين أصبحوا في كل مكان، بينما الدولة وقواتها لا وجود لها إلا في العاصمة باماكو وبعض المدن القليلة. الجنود يتحصّنون داخل قواعدهم ويتجنّبون مواجهة المتمرّدين المسلحين تسليحاً جيداً، بل يفوق أحياناً تسليح الجيش النظامي نفسه. من الواضح أنّ السلطة العسكرية الحاكمة عاجزة عن تأمين أراضي بلدٍ تفوق مساحته 1.24 مليون كلم2. عجز السلطات تامّ، وعقاب الخصوم فوري. فالمتمرّدون يضربون في العمق لإضعاف النظام العسكري و تحريض السكان ضده. و قد أعاد المسلّحون تنفيذ هجوم على قافلة وقود في عملية استعراضية بثّوها في فيديوهات دعائية، تماماً كما فعلوا بعد الهزيمة القاسية التي ألحقوها بالجيش في جويلية 2024. أما انسحاب مرتزقة فاغنر الروس واستبدالهم بقوات «أفريكا كوربس» التي تباهت بها موسكو وباماكو، فلم يغيّر شيئاً من مأساة الماليين، بل زادها سوءاً. و لا داعي لتوجيه الأنظار إلى الكرملين، فصاحبه فلاديمير بوتين غارق بدوره حتى العنق في وحل الحرب الأوكرانية. في 6 جانفي 2025، تحدّث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علناً عن خيبة أمله من جحود الدول الإفريقية التي أنقذتها باريس، مذكّراً بأنّ فرنسا كانت قد منعت سقوط باماكو في أيدي الجهاديين عام 2013. و اليوم، يبدو أنّ ماكرون يأخذ بثأره، بينما الجنرال غويتا لن يجرؤ على الاتصال به كما فعل سلفه مع فرنسوا هولاند آنذاك. منذ ما يقارب شهرين، والمتمرّدون يحكمون سيطرتهم على الطرق المحيطة بالعاصمة لخنقها تماماً. النظام العسكري يسير نحو حالة الطوارئ الشاملة دون أفق للخروج منها. أما تحالف دول الساحل (AES) الذي رُوِّج له كدرع متين بعد الانسحاب من الإيكواس، فقد بدا هشّاً... فأين أصدقاء الأمس في النيجر وبوركينا فاسو؟ وأين جيوشهم؟ إياد أغ غالي... رعب مطلق لكلٍّ من هذه الدول مشاكله الخاصة، يديرها كما يستطيع. وفي نيامي وواغادوغو الوضع ليس أفضل بكثير من باماكو. الكوابيس متشابهة، ودورهم قادم إن سقط النظام المالي. يقول الصحفي و المدير العام لمكتب Méhari Consulting في مالي، محمد أغ أحمدو : «مالي تتجه مباشرة نحو سيناريو كابول عام 2021». و يُضيف أحمدو أن الولاياتالمتحدة تشاركه هذا التشاؤم، إذ دعت سفارتها رعاياها إلى مغادرة مالي فوراً بسبب الخطر المتزايد في العاصمة. الجهاديون يتقدّمون بثبات نحو باماكو مستغلّين فشل الجيش المالي. و يقودهم إياد أغ غالي، الذي يحسن استغلال كلّ ثغرة في صفوف الجيش. و يتابع أحمدو قائلاً : «العسكريون أخلوا الميدان للراديكاليين بعد أن استعانوا بمرتزقة روس نفذوا حملات انتقامية ضد القرى في الجنوب و الوسط و الشمال. و هذا ما سهّل على الجماعات الإرهابية تجنيد الشباب العاطلين. يضاف إلى ذلك دعم الدعاة المتشددين في مناطق الجنوب مثل بينا ديارا وغيرهم». و يشير أيضاً إلى أن بعض الجنود المحبطين انضمّوا إلى صفوف الجماعات الإرهابية، ما زاد من قوتها وخبرتها القتالية. و يضيف : «هناك عمليات انتقامية ضد الضباط الكبار، فالجيش اليوم مفكك، وكثير من كبار القادة عُذّبوا أو سُجنوا، ما دفع العديد من الضباط والعسكريين إلى الفرار والانشقاق». و يؤكد الخبير في شؤون الإرهاب والجريمة في الساحل، مامادو ماوث بان، في حديثه لإذاعة DW، أن إياد أغ غالي يحظى بدعم «رموز الجهادية» مثل أمادو كوفا، إضافة إلى دعم بعض المجموعات القبلية، لا سيما الطوارق والفولان. و يضيف : «بعض الحركات الانفصالية في شمال مالي، خصوصاً الطوارق، تتحالف أحياناً مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين لتنفيذ عمليات مسلحة. و هي جماعة نشطة للغاية و المقلق هو تمدّدها جنوباً، ما يؤكد وجود تهديد حقيقي». و يذكّر بأنّ السلطة العسكرية كانت قد مزّقت اتفاق السلام الذي رعته الجزائر بذريعة واهية، لكنها الآن تحصد العواقب. و أخيراً، يُذكّر بان أنّ إياد أغ غالي مقاتل مخضرم شارك في حروب لبنان و ليبيا و تشاد و من خلالها بنى خبرته و مكانته لدى قبائل مالي. و اليوم يجد الجنرال غويتا نفسه أمام خصم شرسٍ يفوق قدرات جيشٍ منهك ، ضعيف التسليح و التدريب ، فاقدٍ للحافز و المعنويات. تعليقات