ملف التسفير إلى بؤر التوتر: حجز القضية للمفاوضة والتصريح بالحكم    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    الرابطة الأولى (الجولة 28): صراع مشتعل على اللقب ومعركة البقاء تشتد    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    عاجل/ هلاك ستيني في حريق بمنزل..    القضية الفلسطينية تتصدر مظاهرات عيد الشغل في باريس    نسق إحداث الشركات الأهلية في تونس يرتفع ب140% مقارنة بسنة 2024    أعوان وإطارات المركز الدولي للنهوض بالاشخاص ذوي الاعاقة في اعتصام مفتوح    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    لأول مرة في التاريخ: شاب عربي لرئاسة ريال مدريد الإسباني    تشيلسي يهزم ديورغاردن 4-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    زاراها قيس سعيد...كل ما تريد معرفته عن مطحنة أبة قصور في الكاف    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عاجل/ أمطار أعلى من المعدلات العادية متوقعة في شهر ماي..وهذا موعد عودة التقلبات الجوية..    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    رئيس الجمهورية في عيد العمّال: الشغل بمقابل مع العدل والإنصاف    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الليلة: سحب عابرة والحرارة تتراوح بين 15 و26 درجة    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسباب النكبة العربية من وجهة نظر كاتب تونسي سنة 1949
لماذا لم ينتصر العرب على إسرائيل؟
نشر في الصباح يوم 11 - 05 - 2008

كان لهزيمة العرب (النكبة) أمام العصابات الصهيونية الغازية لارض فلسطين سنة 1948 وتأسيس إسرائيل وما ترتّب على ذلك من تشريد وترحيل آلاف الفلسطينيين الاثر الكبير في نفوس العرب جميعا ومنهم التونسيين.. وانبرت الكثير من الاقلام العربية لتحليل مختلف الاسباب التي أدت إلى تلك النكبة ومن ثم قيام الدولة الصهيونية.
ومن بين أهم ما كتب في هذا المجال مؤلف المؤرّخ والمفكر قسطنطين زريق(1909-2000)، "معنى النكبة"(1) ولم يتخلّف الكتاب التونسيون بدورهم عن المساهمة في متابعة الحدث وتحليل خلفيات النكبة بكل أبعادها(2).. ورغم أهمية الكتابات الصحفية التونسية في هذا المجال غير أن مساهمة الصحفي والكاتب التونسي أحمد بن مصطفى(3) التي جاءت في كتاب مستقل أصدره باللغة الفرنسية في جوان سنة 1949 تحت عنوان "Pourquoi les Arabes n'ont pas vaincu Israël" (لماذا لم ينتصر العرب على إسرائيل؟) تعتبر من أهم تلك المساهمات التونسية بل العربية وذلك لما تضمّنه الكتاب، على صغر حجمه، من معطيات وتحليلات دقيقة وعميقة كما لم يقتصر الكاتب على إبراز العوامل الخارجية (المؤامرات كما بين الكثير من الكتاب من جيله)، بل غاص عميقا في تحليل الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والذهنيات السائدة التي اعتبرها الكاتب من الاسباب العميقة لهزيمة العرب وانتصار الحركة الصهيونية كما تميّز الكتاب بتحديد مجموعة من البدائل "العملية"التي قد تساعد العرب على تجاوز نكبتهم.
جاء هذا الكتاب في نحو 53 صفحة من الحجم الصغير وصدر عن منشورات "La Jeune Tunisie " وتميّز بدقة المعطيات وعمق التحليل. تضمّن الكتاب مقدمة(ص5) وثلاثة "فصول"متفاوتة الحجم وهي:
حرب عادلة (7-13 ): هل للصهيونيين الحق في دولة بفلسطين، الجرائم، صنيعة الامبريالية.
الانتصار لا يأتي(15- 43): الاسباب الموضوعية، الاسباب الذاتية.
حلّ وحيد(44-53): البدائل لتجاوز النكبة.
يبدأ الكاتب في مقدمة كتابه بطرح استنتاجات مركّزة مستشرفا مستقبل المنطقة على خلفية تأسيس الدولة الصهيونية مؤكّدا أن حرب فلسطين قد وضعت مستقبل الشرق الاوسط كله في الميزان ومبيّنا أن الصهاينة كما الامبرياليتين "السوفيتية" والامريكية(4) سيمهّدون لعصر الهيمنة على الدول العربية ويشير إلى أن المرحلة الاولى من هذه الهيمنة كانت دامية أما المرحلة الثانية فستكتسي بالتأكيد طابعا سلميا يتمثل في التسرّب الاقتصادي والايديولوجي في المنطقة إلى أن يصل التسرّب ذاك إلى حدّه الاقصى لتعرف المنطقة بعد ذلك مرحلة العدوان الصهيوني المسلح مجدّا عندها سيجد العرب أنفسهم في وضعية دنيا تدفعهم ربما للتخلّي عن الصراع إذا لم يسرعوا في إصلاح أخطائهم وتجاوز ضعفهم واستخلاص الدروس من "أخطائهم الاجرامية".
لم تكن تلك الافكار "نبوّة" بل نظرة استشرافية لمستقبل المنطقة استنادا على معرفة دقيقة بالحركة الصهيونية وبطبيعتها العدوانية وعلاقاتها الدولية الامر الذي أكدته الاحداث اللاحقة إذ لم تعرف منطقة الشرق الاوسط منذ تأسيس "إسرائيل" الامن والسلام إذ تتالت الحروب والاعمال العدوانية الاسرائيلية سواء على البلدان العربية المحيطة بفلسطين أو على الشعب الفلسطيني ذاته (مصر 1956، حرب جوان 1967، حرب الاستنزاف 1970، حرب اكتوبر1973، غزو جنوب لبنان 1978، احتلال بيروت والجنوب اللبناني 1982 وصولا إلى العدوان على لبنان صيف 2006 ومحرقة غزة المتواصلة..).
في الفصل الاول يناقش الكاتب ويحلّل إشكالية تاريخية وسياسية رئيسية وهي: هل للصهاينة الحق في إقامة دولة في فلسطين؟ ولمعالجة ذلك لا يهتم الكاتب بالتاريخ القديم إذ يقول أن لا فائدة من الرجوع إلى المعطيات الاثنية أو الدينية بل يكتف بتناول المسالة من فرضيتين مختلفتين تمثلان في الوقت ذاته فائدة مزدوجة: نظرية وتطبيقية تسمحان، حسب رأيه، بالوصول إلى أجوبة متماثلة ومتّسقة ولا يبقى في هذه الحالة غير البحث عن أي من الفرضيتين تنطبق على الحالة الفلسطينية.
تتمثل الفرضية الاولى في ما يلي: هل يمكن لشعب أقام في دولة، بفضل المعونات والتشجيعات المختلفة المقدمة له من قبل الامبريالية ومن خلال إرهاق شعب آخر واضطهاده، أن يدعي السيادة على تلك الارض أو الادعاء بشرعية سيطرته على أملاك السكان التي تم الاستحواذ عليها من خلال وسائل وقوانين مفروضة بالرغم من إرادة أغلبية السكان؟
أما الفرضية الثانية التي طرحها الكاتب فهي: هل لاقلية "وطنية"أو أثنية أو دينية أو غيرها، أقامت في بلد ولم تتعرّض خلال وجودها لاي نوع من الاضطهاد أو الضغوطات ولم تتخذ ضدها أي إجراءات أو أحكام اعتباطية، الحق (أن سمحت لها الجغرافيا) بالانفصال عن أكثرية السكان وتكوين دولة مستقلة؟.
وانطلاقا من الفرضيتين السابقتين ينطلق الكاتب في بحث الاسس التي تكوّن الامم ويقدّم العديد من الامثلة من التاريخ الحديث والمعاصر نافيا على اليهود أن يكونوا أمة بحسب مفهوم الامة ويؤكد أن هؤلاء ينتمون إلى كل القوميات وان لكل جماعة منهم خصائص سوسيولوجية ودينية وسياسية تختلف عن الاخرى تبعا للبلد الذي يستقرون فيه وهو وطنهم. ثم يتساءل الكاتب عن هدف الصهيونية: هل تأسيس دولة عرقية؟مؤكدا أن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود لا يمكن أن يمثل إلا حجة سيئة لتبرير إقامة دولة يهودية في فلسطين إذ أن هذه الاخيرة لن تتمكن من وضع حدّ لما يتعرض له اليهود في العالم.ويقول الكاتب انه من المنطقي أن تقوم كل من الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفيتي بتعويض اليهود عما حدث لهم من قبل ألمانيا وغيرها من الدول ومنع تجدد اضطهادهم وذلك من خلال إعطائهم حقوق المواطنة كاملة بل حتى منحهم"ملجأ"على أراضيهم خاصة وان مساحة الدولتين تغطي أكثر من ثلث أراضي الكرة الارضية، غير أن الكاتب يستدرك القول بالتأكيد أن مصلحة الدولتين تدفع إلى تشجيع قيام الدولة الصهيونية في فلسطين. كما يبرز الكاتب أهم الجرائم التي ارتكبتها المنظمات الارهابية الصهيونية وأدت إلى إبادة سكان العديد من القرى والاحياء العربية في حيفا وعكّا.. وقد أكد المؤرخون الاسرائيليون الجدد(5) منذ التسعينيات من القرن الماضي واستنادا على وثائق الدولة الصهيونية حقيقة تلك الجرائم وبشاعتها من خلال قراءة نقدية للحرب كانت مغايرة تماما للقراءة الرسمية التي سادت لعدة عقود..غير أن الكاتب يؤكد أن ذكر تلك الجرائم لا يعني تحريض العرب للثّأر من اليهود، الذين عانوا الكثير من الاضطهاد، ولا يمكن للعرب بالتالي أن يماثلوا هؤلاء مع الصهاينة الذين يدعون بأنهم زعماء اليهود في كل مكان وهم في الواقع أعداءهم الحقيقيين.. ويبرز الكاتب من جهة أخرى دور بريطانيا، من خلال تقديم وقائع ومعطيات دقيقة، في إقامة الدولة الصهيونية (راس حربة الامبرياليتين كما يقول الكاتب) وفي نفس الوقت "تقسيم العالم العربي إلى دويلات عربية.
يخصّص الكاتب الفصل الثاني لتحليل أسباب عدم انتصار العرب ويقول أن الهزيمة لا تعكس لا من قريب ولا من بعيد تحضيرات العرب للحرب ولا تعبر عن حقيقة موازين القوى بين الطرفين مؤكدا أن أسباب هزيمة العرب تعود لاسباب عميقة جدا وان معرفة مجمل الاسباب وتحليلها يمكن أن تسمح للعرب بإعادة الثقة في قدراتهم. ويقسم الكاتب أسباب الهزيمة إلى أسباب موضوعية وأخرى ذاتية.
أما الاسباب الموضوعية فتتمثل في وجود دولة صهيونية قبل الاعتراف بها رسميا قبل وقت طويل، إذ أنها كانت موجودة، حسب الكاتب، في كل وقت منتشرة ومتنقلة في كل مكان ويقول أن هذه الدولة كانت تملك منذ البداية "برنامجا ولها حكومة تتمثل في الوكالة اليهودية" وتمكنت هذه الحكومة "بمساعدة بريطانيا بالانتقال إلى فلسطين وإرساء تنظيمات متكاملة تميزت بالنجاعة وبالعقلانية وبالانضباط في الممارسة..." ويتحدث الكاتب بإطناب وإعجاب عن النشاط التعاوني الذي أقامته الحركة الصهيونية في فلسطين وعن المؤسسات التربوية التقنية والجامعة والمكتبة وتشجيع البحوث المدنية والعسكرية ويقول أنها كانت "تبني إلى جانب مخازن القمح مخازن جماعية للسلاح والذخيرة.. لذلك فانه عندما أعطيت إشارة العدوان يوم 15 ماي كانت التعبئة عامة في صفوفهم.وباشرت كل مستوطنة زراعية وكل قرية صهيونية باحتلال القرية العربية القريبة منها، فقد كان "الهجوم متزامنا والاحتلال سريعا لقد تمكنت الحركة الصهيونية من تعبئة شعب متضامن متحمس يعمل ليلا نهارا للمعركة الفاصلة..." كما يعتبر أن من اهم اسباب هزيمة العرب هو جاهزيّة الحركة الصّهيونيّة التي "اعتمدت برنامجا محدّدا واستخدمت جميع الوسائل بهدف تحقيقه وذلك دون الاهتمام بردود فعل الاخرين..".(6)
غير أن الكاتب يستدرك القول مؤكدا انه لولا المساعدات التي تدفقت على الصهاينة في فلسطين من جميع أنحاء العالم لما تمكنوا من إنجاز كل ذلك بالاضافة إلى المواقف السياسية المساندة من قبل الدول الغربية وعصبة الامم وصولا إلى هيئة الامم المتحدة قائلا انه "باسم العدالة الدولية دفع العرب الثمن". ويتساءل الكاتب عن السبب في عدم ممارسة هذه العدالة الاممية على بقية الشعوب المضطهدة.ثم يستعرض المساعدات العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة الامريكية مباشرة بعد الاعتراف بإسرائيل كالدبابات والطائرات والمدافع والذخيرة والقروض الميسرة والهبات ومراكز التدريب..ثم تحدث عن المساعدة التي قدمتها الدول الشيوعية(دول المعجزات كما سماها) والتي لا تقل قيمة وحجما عن تلك المساعدات التي قدمتها واشنطن.. كما بيّن الكاتب دور الاعلام والمال في انتصار الحركة الصهيونية "..وكان لسيطرة الحركة الصهيونية على قطاع الاعلام في العالم الغربي دورا هاما في خدمة الاهداف الاستراتيجية للحركة الصهيونية، ناهيك عن القطاع المالي..".
ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى تحديد الاسباب الذاتية للهزيمة محمّلا الانظمة العربية السائدة آنذاك مسؤولية ما جرى قائلا أنه إلى جانب التحالف الدولي ضد العرب وفلسطين والمساند لاسرائيل "تقبع أنظمة اجتماعية في العالم العربي متأخرة، استبدادية تمارس سياسة خارجية مترددة بقيادة أفراد تنقصهم الكفاءة، يعملون بوعي أو بغير وعي منهم لصالح القوى الاجنبية". وحمّل الكاتب مسؤولية تلك الوضعية لافراد الطبقة الحاكمة العربية الذين"..شيدوا آلاف القصور والاماكن الخاصة بهم في حين أن مواطنيهم بحاجة للمدارس والمستشفيات وقاعات السينما والمسارح..." وكان هدفهم الوحيد هو "..تنمية ثرواتهم فبدّدوا بذلك الثروات ورؤوس الاموال التي كانت من المفروض أن تستخدم بشكل أفضل للنهوض ببلدانهم.."
ويقدم الكاتب تحليلا عميقا مستندا لمعطيات وأرقام عن الاوضاع الاجتماعية للعرب متخذا من مصر كنموذج: سيادة الاقطاع وعذابات العملة المزارعين والعمال (كثرة ساعات العمل برواتب منخفضة جدا..)وتدهور الاوضاع الصحية(توفي مثلا بسبب الملاريا سنة 1943 نحو 200 ألف مصري وارتفاع نسبة الامية وانخفاض نسبة التّمدرس وارتفاع نسبة وفيات الاطفال: من 650 الفا مولود يموت 450 الفا منهم قبل الوصول إلى سنّ الخامسة..).
أما السبب الذاتي الثاني للهزيمة الذي يعرضه الكاتب فيتمثّل في انعدام الحد الادنى من التضامن بين الانظمة العربية وإن "..وجد (التضامن) فلا يتجسد إلا في الخطب والاحاسيس.."
ويؤكد الكاتب أن انتصار أي طرف في الحرب تتطلّب توفّر شرطان أساسيان يتمثلان في القوة المادية والقوة المعنوية ويقول أن الشرط الاول كان مفقودا لدى من هبّوا لتحرير فلسطين إذ أن الحكام العرب لا يفكرون إلا في تنمية مواردهم المالية والبحث عن رفاهيتهم في الوقت الذي كانت تنتشر فيه البطالة والامراض والامية والجهل وسوء التغذية وتفتقد شعوبهم للمدارس والمستشفيات وقاعات السنما والمسارح..
وينتقد الكاتب الخطاب السياسي العربي الذي بشّر بالنصر(يقدم كأمثلة كتابات عوني عبد الهادي..وجريدة الاهرام المصرية)قائلا أن الكلمات تصبح بلا معنى أو بلا قوة عندما تتكلم المدافع...مقابل ذلك يثمن الكاتب ما قامت به الشعوب العربية تجاه فلسطين غير أن وضعية المتطوعين البائسة وقلة التنظيم والسلاح جعل دور هؤلاء محدود جدا في الوقت الذي كان الصهاينة منظمون وكانوا يستعدّون للحرب منذ عشرات السنوات.
ومن العوامل الذاتية التي أدت إلى نكبة العرب، حسب الكاتب هي "السياسة الذليلة"التي مارسها الحكام العرب الذين يتهمهم بالتذيّل للاجنبي والخضوع لارادته ويقول إننا "كعرب لن نغفر لهذه الحكومات العربية التي لم تمارس سياسة تخدم مصالح الشعوب العربية بل عملت بكل الوسائل لخدمة مصالح الامبريالية.."ويعتبر الكاتب أن خطأ الجامعة العربية يتمثّل في "قبولها لمهمة تتجاوز طاقتها، في الوقت الذي انحصر نشاطها في إلقاء عزام باشا الخطب..وكان هدفها الاساسي هو توحيد الذين يكرسون التجزئة العربية وحمايتهم من شعوبهم.." ويقول أن الجيوش العربية في ساحة المعركة كانت تفتقر للسلاح والتنظيم والمؤونة وينتقد قبول العرب الهدنة التي اعتبرها الكاتب خدعة مكّنت الصهاينة من مزيد التسلح وإعادة الانتشار للانقضاض على الجيوش العربية..ويتهم القيادة العربية بالخيانة لانها سهلت الامر على الصهاينة لاحتلال فلسطين..
يخصّص الكاتب الفصل الاخير من كتابه لتقديم البدائل التي تمكّن العرب من الانتصار على أعدائهم ويقرّ الكاتب بأنه وبرغم انتهاء الحرب وسكوت المدافع والتوقيع على اتفاقيات لوزان بين إسرائيل والدول العربية الاربعة غير أن الصراع سيستمر لفترات طويلة وذلك على جبهتين الاولى عسكرية والثانية اقتصادية مشيرا إلى ان رقعة فلسطين محدودة في حين أن الهجرة اليهودية ستتضاعف لذلك فلا بد للدولة الجديدة من التوسع على حساب فلسطين وبعض الدول العربية..ويشير إلى أن حرب فلسطين لم تكن لتحدث "..لولا امتلاك الولايات المتحدة الامريكية لجزء هام من النفط العربي وحرصها على استمرار تدفّقه ولولا حرص انقلترا على حماية حقول النفط في العراق وأنابيب نقله وقاعدتها الجوية في النجف الضرورية لحماية قناة السويس ولولا حرص الاتحاد السوفيتي على نيل حصته من الغنيمة لما قامت إسرائيل.."و يقول الكاتب أن "فهم الصراع بين الطرفين على أساس ديني هو من باب العار"..إنه من العار على العرب محاربة اليهود كيهود، يجب خوض نضال عقلاني ضدّ الاضطهاد والاستغلال بكل أشكاله ومن أي مأتى كان.."وبالتالي من الضروري "النضال العقلاني ضد الاضطهاد والاستغلال بكل أشكاله ومن أي جهة يأتي وذلك بهدف حصول الوطن العربي على الاستقلال والسعادة التي يستحقها..".
أما الشروط الضرورية للوصول إلى هذا الهدف فيلخصها الكاتب في عدة نقاط منها:
ضرورة أن تتوحد جميع الاحزاب والمنظمات في كل بلد عربي( باستثناء تلك التي تخدم مصالح الامبريالية أو المصالح الشخصية لفرد أو مجموعة من الافراد)وان يحدّدوا نفس المهام التي تتمثل في سعادة الشعب المادية والمعنوية وان يستخدموا نفس وسائل العمل وان يتوحدوا في تنظيم واحد وان يتبنوا المبادئ الديمقراطية في العمل..
× تحديد برنامج عمل من اجل الاستقلال الحقيقي وتطوير المستوى المادي والمعنوي للشعب وإلغاء كل أشكال الاستغلال والاضطهاد ونتائجها..
تعبئة كل الطاقات الشعبية وإيقاظ حماسهم لتحقيق هذا البرنامج..وعلى أساس ذلك تتحد كل الدول العربية في فدرالية عربية تأخذ مكان الجامعة العربية الحالية.وينادي بضرورة الوحدة الاقتصادية التي تمثل الحل الوحيد لجميع مشاكل العرب الاقتصادية والاجتماعية مؤكدا انه ليس بامكان أي دولة حاليا العيش على قدراتها الذاتية ويذكر الكاتب مساعي أوروبا في البحث عن الوحدة الاقتصادية في ما بين دولها.ويقول أن كل "مقومات الوحدة العربية متوفّرة ومنها:اللغة والامال المشتركة والعادات والتاريخ. فهل يعجز العرب على تحطيم الحدود التي وضعها الاستعمار الاجنبي...".
لا تبرز قيمة هذا الكتاب في الواقع من خلال تشريح المؤلّف للاسباب الموضوعية والذاتية التي أدت إلى "نكبة" العرب وتحديده للاطراف المسؤولة عن ذلك فحسب بل في ما طرحه أيضا من أفكار وبدائل لتجاوز النكبة وبنقده الموضوعي والجريء وابتعاده عن تقديم الاعذار والتبريرات..وهو ما يجسّد نباهة الكاتب ويبرز في الوقت ذاته فرادة الرؤية العقلانية للخطاب السياسي في تونس في تناوله للموضوع الفلسطيني..
هوامش
1 زريق (قسطنطين) : الاعمال الفكرية العامة، المجلد الاول، ط 2 مركز دراسات الوحدة العربية ? مؤسسة عبد الحميد شومان، بيروت 1996، كتاب معنى النكبة، صص70 ويعتبر هذا التأليف من أكثر المصادر التي يعتمد عليها المؤرخون والمفكرون الذين يتناولون اسباب النكبة العربية..
2 الحناشي(عبد اللطيف):تطور الخطاب السياسي في تونس ازاء القضية الفلسطينية 1920-1955، المطبعة الرسمية، تونس 2006، صص352.
3 رغم المجهودات التي قمنا بها وخاصة من خلال الاتصال بالعديد من الشخصيات التي تحمل نفس لقب المؤلف غير أن من اتصلنا بهم نفوا علاقة القرابة معه أو معرفتهم به(برغم معاصرتهم له).وكان الاستاذ أبو القاسم محمد كرّو(أطال الله في عمره) قد قدّم لنا صورة شمسية للمؤلف وقال انه يعرفه شخصيا وقال انه كان يجلس أحيانا في مقهى"نزل أفريقيا"خلال السبعينيات غير أن الاستاذ لا "يعرف"بدوره شيئا عن حياة الكاتب.وفي الوقت الذي نشكر فيه الاستاذ أبو القاسم محمد كرّو على تعاونه ولطفه خلال جلساتنا معه ندعو من له علاقة أو معرفة بالكاتب أن يفيدنا ببعض المعلومات عنه وخاصة بعض كتاباته علها تفيدنا عند نشر ترجمة هذا الكتاب الفريد.
4 سحب الكاتب صفة الامبريالية على النظام السوفيتي قبل إطلاق الشيوعيين الصينيين هذه الصفة بوقت طويل وذلك على خلفية الصراع الايديولوجي بين النظامين الشيوعيين.
5 هم مجموعة من الاكاديميين الاسرائيليين برزت أواخر ثمانينات القرن الماضي، استغلوا الارشيف الاسرائيلي وخصوصا أرشيف الجيش، بعد ثلاثين عاما على قيام الدولة وفقا للقانون، وأعادوا النظر في الرواية الرسمية حول حرب 1948، خصوصا عمليات تهجير الفلسطينيين، والمجازر التي رافقت ذلك قبيل وخلال وبعد نكبة 1948، وأصل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين... لمزيد الاطلاع حول هؤلاء المؤرخين الجدد: الحروب(خالد):"المؤرخون الجدد الفلسطينيون والاسرائيليون:وجهة نظر"، مجلة الدراسات الفلسطينية عدد 48 حريف 2001، ص.ص49-62
6 يؤكد احد أهم الباحثين الفلسطينيين المعاصرين ما ذهب إليه الكاتب إذ يذكر أن "الفلسطينيين واجهوا مجتمعا يهوديا كان على الرغم من صغر حجمه بالنسبة لهم متحدا سياسيا ويمتلك مؤسسات مركزية تشبه نظام الدولة ولديه قيادة جيدة وله دوافع راسخة. أنظر: الخالدي(رشيد) : "الفلسطينيون وحرب 1948 : الاسباب الكامنة وراء الهزيمة"، في كتاب : حرب فلسطين، إعادة كتابة تاريخ 1948، ترجمة ناصر عفيفي، مؤسسة روز اليوسف القاهرة 2001 ص.ص19-40.
(*) أستاذ جامعي وباحث في التاريخ المعاصر
كلية الاداب والفنون والانسانيات منوبة
abdellatif hannachi 2002 @ yahoo.fr


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.