حسب ما تفيد به التقارير الواردة بالصحافة التونسية التي اهتمت باللقاء الذي جمع أول أمس بين ممثلي وسائل الإعلام التونسية والمراسلين الأجانب ببلادنا ورئيس القيادة العسكرية الأمريكية بالقارة الإفريقية قال المسؤول العسكري الأمريكي أن " خبرته العسكرية علمته الحرص على مساعدة الآخرين " (أنظر الصباح يوم أمس 29 ماي). وللتذكير فإن المسؤول العسكري الأمريكي يقوم بجولة مغاربية افريقية - لنقل - مبدئيا أنه يسعى من خلالها للتعريف بمشروع تنصيب قيادة عسكرية قارة في افريقيا تنضاف إلى بقية القيادات المنتصبة في عدد من بقاع العالم وهو مشروع أعلنت بلاده عنه منذ فترة. ويسيرالمشروع على ما يبدو نحو التنفيذ خاصة فيما يخص مقر هذه القيادة بأحد بلدان القارة الإفريقية وفق ما تم نقله من تصريحات لنفس المسؤول العسكري الأمريكي بالصحافة التونسية. وإذا ما عدنا إلى الأسباب التي تقدمها الولاياتالمتحدة عادة لتبرير أي مشروع من مشروعاتها فإننا نجد أنها تنحصر دائما في ما يسمونه في المساعدة. مساعدة الشعوب من أجل تحقيق الديمقراطية، مساعدة الشركاء أي الدول والسلطات الرسمية في تحقيق أهدافها إلخ.... لكن ماذا إذا كان الإشكال يكمن بالأساس في مفهوم المساعدة. وقد تبين بعد عدة تجارب أن مفهوم الولاياتالمتحدة أو بالأحرى مفهوم السلطات الأمريكية للمساعدة ليس هو نفسه لدى الشعوب والدول في بقية أنحاء العالم. الحرب على العراق من المساعدة إلى الإستعمار لنضرب على ذلك مثل الحرب على العراق. أي شعار كانت ترفعه الولاياتالمتحدة لكي تبررغزوها لهذا البلد ؟. الشعارات كلها تتمحور حول مساعدة الشعب العراقي الذي كان يرزح تحت حكم تصفه الولاياتالمتحدة والديمقراطيات الأوروبية بأنه دكتاتوري بزعامة الرئيس صدام حسين. وقد وجبت مساعدة الشعب العراقي حسب الرئيس جورج وولكر بوش وبالتالي تحريره من الحكم القائم ومنحه الحرية على طبق من ذهب. ومن يحلم بأكثر من الحرية. لكن ووفق ما يؤكده جل الملاحظين وكذلك وفق ما أفرزته النتائج على الميدان فإن الولاياتالمتحدة التي جاءت بحشودها الكبيرة وبترسانتها العسكرية المرعبة لم تكن تملك أي فكرة عن خصوصيات الشعب العراقي. لم تكن تفهم احتياجاته ولم تكن راغبة على ما يبدو في فهم حاجياته الحقيقية. كل ما يهمها كان يتمثل في تدمير هذه القوة الإقليمية التي بدأت تظهر شيئا من الإستقلالية والتي تهدد بالطبع " المحمية الأمريكية " بالمنطقة دولة اسرائيل واستغلال ثرواتها الطبيعية واتخاذها كنموذج على نوعية التعامل مع الدول التي تجرؤ ربما على اتباع سياسة لا تروق للولايات المتحدة. وفي كل تدخلاتها العسكرية عموما التي تترك على إثرها الجرح ينزف مهما كانت النتائج يكون السبب الظاهر والمعلن الرغبة في المساعدة. وها أن الولاياتالمتحدة ترغب اليوم في مساعدة أكبر للقارة السمراء من خلال إقامة علاقات أكثر قربا ومن أجل تيسير عملية التدخل في المنطقة وضمان أيسر الطرق لتوفير الدعم اللوجيستي لقواتها كلما احتاجت لذلك. ما نعرفه أن العلاقات الأفروأمريكية لم تصل في يوم ما إلى مستوى ما بلغته علاقة الولاياتالمتحدة مع مناطق أخرى في العالم خاصة منطقة الشرق الأوسط. ومعروف أيضا العلاقة التقليدية التي تربط أوروبا بالقارة الإفريقية الناتجة عن عدة اعتبارات من بينها الماضي الإستعماري الأوروبي بالمنطقة حيث أن انتهاء الإستعمار العسكري لم ينتج عنه زوال الخضوع للبلدان المستعمرة التي حرصت على تمتين العلاقات الإقتصادية مع مستعمراتها القديمة إلى حد الإرتباط التام. لكن التغيرات المتسارعة في العالم خاصة منذ سقوط الإتحاد السوفياتي وانشغال أوروبا ببناء وحدتها وهي عملية عسيرة سمحت للولايات المتحدة بفتح منافذ عديدة لتدعيم حضورها في القارة السمراء خاصة من الناحية الإقتصادية مع امضاء اتفاقيات مع عدد من الدول المغاربية مثلا تنافس الإتفاقيات الإقتصادية التي تجمع البلدان الإفريقية وشمال افريقيا بالخصوص مع الإتحاد الأوروبي. نتحدث منذ فترة عن مشروع الإتحاد من أجل المتوسط. الفكرة أطلقها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. لا تبدو الآراء بشأن هذا المشروع واحدة على المستوى الأوروبي لكن لا نجد معارضة شديدة للفكرة خاصة مع وجود برنامج محدد لتنفيذها. ولا نتصور أن الولاياتالمتحدة ستكون متحمسة جدا لهذا المشروع الذي تحقق من خلاله أوروبا عددا من الأهداف. من بينها تطوير العلاقات مع بلدان جنوب المتوسط ولعب دور هام في الصراعات القائمة حول المتوسط. الانتصاب بإفريقيا وبوابة المتوسط تزداد اتساعا ولا يخفى على الولاياتالمتحدة التي كانت ولازالت تحافظ على انتصابها بالمتوسط سواء كان ذلك بشكل مباشر من خلال أسطولها الحربي القار وقواعدها العسكرية ببلدان المتوسط أو من خلال التحالفات العسكرية وغيرها لا يخفى عليها أن تعزيز العلاقات الأوروبية الإفريقية من جهة والعلاقات الأور ومتوسطية من جهة ثانية قد يضر بمصالحها. لا بد لها إذن من تطويق الحضور الأوروبي بافريقيا وبجنوب المتوسط. إن الحضور العسكري المباشر بافريقيا لا يعني بالضرورة المرور بسرعة إلى العمليات العسكرية بافريقيا. أولا تعزز الولاياتالمتحدة حضورها في المنطقة وتسد الطريق على خصومها المحتملين ثانيا إن ذلك بمثابة الإنذار الموجه إلى الأوروبيين من جهة وإلى العالم من ورائهم. فلمن يظن أن الحروب الأخيرة التي تخوضها الولاياتالمتحدة سواء بالعراق أو بأفغانستان ربما تكون قللت من هيبتها أو جعلت نفوذها في العالم ينحصر تأتي الإجابة بالنفي. الولاياتالمتحدة تواصل سياسة الهيمنة في العالم معتمدة على قوتها العسكرية. وهي لا تنوي التخلي عن الزعامة بعد أن جربت لسنوات سياسة الإنفراد بالقرار في العالم بعد تحولنا من الصراع بين قطبين إلى سيطرة القوة العظمى الوحيدة في العالم الولاياتالمتحدةالأمريكية. تعتبر اليوم القارة الإفريقية رغم مشاكلها العديدة منطقة هامة بالنسبة للصراعات الجديدة في العالم. فإذا ما تدعم حضور الولاياتالمتحدة في افريقيا فإنه يتسنى لها من خلال ذلك دعم حضورها بالمتوسط مما يسمح لها برؤية استشرافية أفضل ذلك أن المتوسط يبقى يشكل نقطة التقاطع بين القارات الإفريقية والأوروبية والآسيوية كان ولا زال مصدرا لصراع المصالح بين مختلف القوى في العالم. وهناك اليوم عدة عوامل تعود لصالحها لتنفيذ مشروعها العسكري بالقارة السمراء. أوروبا المنشغلة بقضايا الهجرة أولا لا تبدو أوروبا ورغم مشروع الإتحاد من أجل المتوسط معنية بدعم العلاقات مع البلدان الإفريقية بقدر اهتمامها بحل مشاكل الهجرة مع هذه البلدان الشيئ الذي يدفع البلدان الإفريقية التي كانت تحبذ فيما مضى علاقاتها التقليدية مع أوروبا إلى الإنفتاح أكثر على الولاياتالمتحدة التي لا تبخل عليهم باغراءاتها الكثيرة. ثانيا تستغل الولاياتالمتحدة إلى حد النخاع حربها ضد الإرهاب لجعل البلدان الإفريقية التي تواجه بالفعل مشاكل التطرف والإرهاب الديني تندفع نحو الولاياتالمتحدة فاتحة الذراعين من أجل تخليصها من هذا الوباء. وطبعا حربا بهذا الحجم على القاعدة التي تنشط بمنطقة شمال افريقيا وبعدد من الدول الإفريقية وعدد العمليات الذي تبنتها هذه المنظمة في المنطقة دليل على ذلك يتطلب مساعدة من الدول الإفريقية المطالبة بفتح أراضيها لبناء القواعد العسكرية ونقل جزء من الحرب التي تقوم بها الولاياتالمتحدة باسم مقاومة الإرهاب إلى القارة السمراء. ثالثا لا تتردد الولاياتالمتحدة في فرض سياسة الأمر الواقع ولا تتأخر لحظة في تنفيذ مشاريعها سواء بالترغيب أو بالترهيب كلما لاح لها أن المشروع يمكن أن ينجح. وبما أنها دولة لها سياسات عملية فإن لا شيئ يجعلها تتراجع في مشروع سوى التأكد من غياب الجدوى منه تماما وأنه قد يعرض مصالحها للخطر. مادام الخطر خارج حدودها فإن كل المشاريع ممكنة وقابلة للإختبار والتجريب. نأتي الآن للنقطة التي انطلقنا منها. وهي بناء السياسة الخارجية على الرغبة في المساعدة كما يحلو للأمريكيين تزيين عملياتهم العسكرية في الخارج. والسؤال الذي يطرح إزاء ذلك أي مساعدة ستجنيها القارة السمراء من خلال بناء قواعد عسكرية أخرى ومن خلال مزيد التفريط في الجزء القليل المتبقي من سيادتها على أراضيها بعد ارتباطها التام بالخارج في غذائها. ومادامت هذه القارة غير قادرة على أخذ زمام أمورها بنفسها فإنها تبقى لقمة سائغة لكل طامع. إن الولاياتالمتحدة تسعى لمزيد دعم وجودها في المنطقة لتحكم الصراعات هناك وفق مصالحها ولتتخذ من افريقيا بعد أن أهملت هذه المنطقة طويلا ورقة تستعملها في وجه كل قوة تريد تحدي الولاياتالمتحدة سواء أوروبا أو أي قوة صاعدة ومنافسة لها في العالم. وهي وإن لم تستطع إقناع الدول الإفريقية كما ينبغي بمشروعها فإنها تشهر سلاحها المعروف وه والحق في تقديم المساعدة للشعوب التي تحتاج ذلك منها وفق تقييمها الخاص. فمن بين الإلتزامات الأخلاقية للدول العظمى أن تهب لمساعدة الضعفاء أيا كان المكان لندخل مباشرة في إشكالية التدخل الإنساني وهي إشكالية يعاد فتحها اليوم بإلحاح إثر الكوارث الطبيعية التي عرفتها مؤخرا بعض المناطق في العالم. وموضوع التدخل الإنساني بحر من المشاكل وهذا ليس مجالنا اليوم.