نادرا ما يتجه أي زعيم سياسي فاز لتوه في الانتخابات التشريعية للاعتراف بالخطإ او الإقرار بالفشل في تحقيق هدف انتخابي. وعادة ما يتجه الفائز في الانتخابات الى الاحتفال بالحدث ويعمد الى تجاوز النقائص أو تأجيل النظر في شانها. ولكن يبدو أن الزعيمة الالمانية انجيلا ميركل شكلت استثناء وهي التي أقرت بمسؤوليتها بشأن الاستقطاب الحاصل في بلادها خلال الانتخابات واعتبرت أن الامر مرتبط بشخصها بعد تراجع عدد ناخبيها.. وفي ذلك ما يعكس شخصية المستشارة التي تفردت بلقب أقوى امرأة في العالم على مدى سنوات وما يؤشر أيضا الى وعي المستشارة الالمانية بنتائج الانتخابات الاخيرة وما حملته لغة الاقام من انذارات بشأن تمدد ظاهرة التطرف في بلادها.. ميركل التي لم تغتر بنتائج الانتخابات التي اهلتها لولاية رابعة وعدت بالتواصل مع الذين استقبلوها بالصياح والصراخ والاستهجان خلال الحملة الانتخابية في عديد الولايات.. ولا شك أن ميركل تدرك أكثر من أي وقت مضى أن انتصارها، الذي لا يخلو من طعم المرارة، يقتضي منها الانتباه أولا الى أصوات الغاضبين الذين تخلوا عن دعم حزبها، واتجهوا بدلا من ذلك للتصويت لليسار المتطرف، ولكن ايضا لليمين المتطرف الذي أحدث زلزالا في المشهد السياسي الالماني بحصول حزب «البديل لألمانيا» على 13 بالمائة من الأصوات، ما يعني حصوله على نحو تسعين مقعدا في البوندستاغ. وهي المرة الاولى التي تسجل فيها المانيا مثل هذا الفوز اليمين المتطرف، فضلا على أن حزب البديل لألمانيا يظل حزبا ناشئا تأسس قبل أربع سنوات ووجد له قاعدة شعبية في أوساط المعارضين للاتحاد الاوروبي وللمهاجرين الاجانب وتحديدا المهاجرين من المسلمين. وقد وجد اليمين المتطرف في سياسة ميركل التي راهنت على استقبال نحو مليون مهاجر أجنبي ما يكفي من المبررات لإقناع الناخبين بالتصويت له... والارجح أن شريحة مهمة من الناخبين أرادت معاقبة ميركل على طريقتها وتخطئتها على عدم الاستماع لأصواتها وهذه فئة لا يمكن أن تحسب على اليمين المتطرف أو النازيين الجدد.. ويبدو أن تصريحاتها تصب في هذا الاتجاه في محاولة منها لتجاوز الاخطر والانتباه لتعقيدات المرحلة القادمة والبحث عن التحالفات المطلوبة لتشكيل الحكومة الجديدة قبل أن تحظى بلقب المستشارة للمرة الرابعة على التوالي.. صحيح أن نتائج الانتخابات الالمانية لم تخرج عن أغلب استطلاعات الرأي التي توقعت فوز حزب المستشارة الالمانية انجيلا ميركل الاتحاد المسيحي الديموقراطي وحليفه التقليدي الاتحاد المسيحي الديموقراطي طليعة الترتيب بالحصول على 32.9 بالمائة من الأصوات ولكن مع اختلاف مهم عن سباق الانتخابات السابقة، تماما كما توقعت فوز اليمين المتطرف بالمرتبة الثالثة وهو ما اعتبر بمثابة الزلزال الانتخابي الذي لم تستفق منه ألمانيا بعد.. لكن - وهذا الأهم - ما يعني أيضا أنه سيتعين على ميركل البحث عن تحالفات جديدة مع الحزب الليبيرالي الديموقراطي وحزب الخضر لتشكيل الأغلبية بعد قرار الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي تحالف مع ميركل على امتداد اربع سنوات، البقاء في المعارضة استجابة لدعوات ناخبيه وانتظار أن تتجاوز المستشارة الالمانية تعقيدات المرحلة واعلان حكومتها الائتلافية القادمة، فان الاكيد أن قراءة أولية في نتائج الانتخابات الالمانية تؤشر الى تحولات في المشهد السياسي الالماني والاوروبي.. وتبقى أنجيلا ميركل عالمة الفيزياء التي ستتخلى عن المخابر العلمية المغلقة لتقتحم مخبر الاختبارات السياسية الكبرى، الزعيمة الاوروبية التي يحسب لها قادة العالم ألف حساب وهي التي جعلت الاعلام الاوروبي يتحدث عن أوروبا الالمانية بعد إقرار وصفة ميركل لعلاج ازمات اليونان واسبانيا والبرتغال وايطاليا واصرارها على سياسة التقشف لتقديم مساعداتها لهذه الدول. ذلك أن قاموس ميركل البراغماتية لا مكان فيه لأي معجزات وهي التي تعلمت انطلاقا من التجربة الالمانية بعد الحرب أن الافلاس ليس قدرا وأن البناء والاعمار والتنمية تكتمل باستعادة قيم العمل والاجتهاد، وهو ما دعت اليه حكومات اثينا ومدريد ولشبونة مصرة على أنه لا مجال في عقلية ميركل للمساعدات المجانية المستمرة.. لقد ظلت ميركل ثابتة في مواجهة هجمات ترامب ولم تهتز لازمة البركسيت وهي التي عرفت بقلة الكلام ودقة الخيارات ونجاح الرهانات. قبل يومين نجحت ميركل فيما لم يسبقه اليها غير المستشار كونراد أديناور باني المانيا بعد الحرب العالمية الثانية وهلموت كول مدربها وقدوتها في عالم السياسة، وقد تمكنت وهي في الثانية والستين من الفوز بولاية رابعة لقيادة ألمانيا ولكن أيضا لقيادة الاصلاحات المرتقبة في الاتحاد الاوروبي.. كثيرون ينتقدون طابع ميركل البسيط ويصفونها بالفلاحة وهي ابنة القس التي نشأت وراء الستار الحديدي في ألمانيا الشرقية سابقا قبل سقوط جدار برلين.. وبعد فوزها بالمستشارية ظلت ميركل على بساطتها تعيش في شقتها وتسوق بمفردها وتتابع المباريات الرياضية في الملاعب. تميزت ميركل بهدوئها حتى في أصعب وأعقد الأوقات، وعندما وقعت حادثة الدهس الارهابية عشية أعياد الميلاد في برلين وقتل فيها الكثير من الابرياء تريثت ولم تنجرف الى إطلاق الاتهامات وتحميل مسؤولية الجريمة الارهابية الى بلد المنشأ لمنفذها الذي اتضح لاحقا أنه تونسي. تماما كما رفضت ميركل حسابات الزعماء الاوروبيين في تعاملهم المهاجرين ورفضت اغلاق حدود بلدها دونهم رغم كل الانتقادات التي طالتها ورغم تداعيات ذلك على طموحاتها الانتخابية.. وقد دفعت ثمن مواقفها وتراجع مؤيدو حزبها في الانتخابات الاخيرة. «موتي ميركل» أو ماما ميركل كما يحلو للألمان أن يدعونها، جعلت من ألمانيا البلد الاقوى اقتصاديا في أوروبا والاكثر قدرة على التحكم في نسبة البطالة وضمان الامر والاستقرار.. والارجح أن ميركل ستتجه الى تطويق ومحاصرة مظاهر التطرف التي تفاقمت على وقع الانتخابات الأخيرة، والارجح أيضا أنها ستسعى الى استعادة ثقة مواطنيها وتجنيب ألمانيا امتداد النازيين الجدد الذين تجاوزت فظاعاتهم كل التصورات.