أثبت الموسيقي محمد علي كمون بعد عرضه الأخير نهاية الأسبوع المنقضي بالمعهد الرشيدي بالمدينة العتيقة بالعاصمة، أن النجاح صناعة ونتيجة للمثابرة على العمل وإصرار على الوصول إلى الهدف المنشود، إذ يكفي التذكير بالعروض والأعمال التي قدمها والأطر الثقافية والفنية التي شارك فيها على غرار "طبع وحكاية" و"عطور". فقد قدم عرضه الجديد والمتجدد "النوبة المعطرة" بفضاء المعهد الرشيدي بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة أمام حضور جماهيري هام جاء خصيصا لاكتشاف هذا المشروع الذي اشتغل فيه على المالوف التونسي لكن بطريقته. وذلك بتقديم عرض مصغّر بالمعهد الرشيدي في إطار اتفاقية الشراكة التي أبرمت مؤخرا بين المعهد العالي للموسيقى بتونس الذي يدرس به وبين المعهد الرشيدي الذي يديره الهادي الموحلي واعتبره بمثابة "رحيق" العطور التي اصطفاها من 24 ولاية. افتتح محمد علي كمون هذا العرض بتقديم لحن خاص أراده تمهيدا للسهرة ليضع الحاضرين في سياق عرضه وفي حضرة عرض خاص بالمالوف لكن بطريقة وشكل غير ما عهده الجميع وخاصة رواد مثل هذه النوعية من الموسيقى. ليفاجئ الجمهور بتوظيف آلات موسيقية غير المتداولة في "المالوف" على غرار "الطبلة" و"الزكرة". خاصة أنه قدم في هذا العرض نوبة متكونة من أربعة أجزاء كانت أقرب ما تكون لقراءة جديدة ومختلفة لهذا الموسيقي للمالوف ليقدمه بطريقة مغايرة اختار أن تكون "صادمة" في محاولة لإحداث رجة لدى المتلقي بصفة خاصة. لتطل في نفس العرض سمر بن عمارة تعزف على "الزكرة" في نوبة "جبل زغوان". كما هو الشأن في نوبات "البطايحي" و"دخول براول" و"كيف العمل" وفي الرحلات التي حمل فيها الحاضرين بين عدد من الجهات التونسية المعروفة بالمالوف بدءا بتستور مرورا بزغوان وبنزرت ووصولا إلى تونس العاصمة. وكان لصوت سفيان الزايدي دورا في الرقي بمستوى العرض. علما أن هذا العرض يعد امتدادا لمشروع محمد علي كمون الذي انطلق في الاشتغال عليه منذ سنوات ويتمثل في القيام بجولة في ربوع البلاد التونسية في إطار مشروع فني كبير يحمل عنوان "قافلة الأربعة وعشرين عطرا". وقد زار خلالها الموسيقار 24 ولاية تونسية وبحث في التراث الموسيقي لكل جهة خاصة ما تعلق بموضوع الغزل، وأنهى جولته الفنية في تونس الكبرى حيث قاده العمل للاشتغال على المالوف التونسي، و"النّوب" المعطرة. لذلك أوفى العرض بوعوده على أكثر من صعيد خاصة أمام تميز اداء المجموعة الموسيقية المنفذة له بما يرتقي به ليظل راسخا بالذاكرة الإبداعية التونسية. وقد وجد العرض تفاعلا كبيرا من الجماهير الحاضرة التي استمتعت إلى حد الانتشاء بمعزوفات العرض التي تسمى نوبات المالوف المنتقاة والتي "أخرجها" محمد علي كمون في "لبوس جديد" ليضفي عليها من تجاربه وروحه وعلمه باعتباره أكاديمي وباحث مختص في الموسيقى وخبرته، باعتباره من الموسيقيين الذين نهلوا من الموسيقى العربية والغربية. فكان أن تصرف بذكاء وفنية عالية جعلته مقبولا ومستساغا في هذا النمط من"التراث الموسيقي" الذي ظل بمنأى عن اجتهاد و"تصرف" و"تهذيب" الفنانين في تونس. لذلك يمكن القول أنه نجح في كسر القاعدة والخوض في المالوف دون المساس منه والمحافظة على "شخصيته" على نحو قدمه موروثا قابلا للاستهلاك وسهل التعاطي معه خاصة بالنسبة للأجيال الصاعدة التي هجرت هذا النمط من التراث الموسيقي في الوقت الذي اكتسحت الأذواق والمشهد انماط اخرى من الموسيقى والفنون. كما أعادت قراءته للمالوف التونسي الأصلي والأصيل، بعد أن شرّق، منذ عقود بفضل اجتياح الموسيقى الشرقية. فحري بهذا العرض أن يكون متاحا في أكثر من مناسبة ثقافية وفنية لأنه طرح آخر للمالوف التونسي الذي ظل حبيس الرفوف و"الرشيدية" وبمنأى عن اجتهادات الموسيقيين. فكان العرض أقرب لدرس في الموسيقى من حيث انضباط العازفين وتناسق الحركات خاصة أن "مهندس" العرض اعتمد نسقا تصاعديا على مستوى الإيقاع، فيرتفع النسق والميزان من نوبة إلى أخرى لتصل إلى حد التخميرة، التي تصل بالمتفرج حد النشوة، والانصهار في العرض. وهو العامل الذي شد الأعداد الكبيرة من الجمهور التي حضرت العرض وطالبت بإعادة بعض النوبات والمقاطع. ووجدت التجاوب من الفرقة الموسيقية التي ضمت خيرة العازفين في تونس على غرار زياد الزواري في العزف على الكمنجة لطفي صوة في الإيقاع وهشام البدراني وأحمد ليتيم على الناي. وما سجل في نفس العرض لدى شريحة من الحاضرين وأغلبهم من كبار السن هو علامات الدهشة والتعجب التي ميزت محياهم وهم يتابعون السهرة. لكن الأغلبية استحسنت الطرح واعتبرته بمثابة رحلة إلى فضاء أرحب وأجمل في موسيقى المالوف. صاحب هذا المشروع الموسيقي ذرف دموع الفرح وهي الدموع التي ترقرقت فرحا من أعين عديد الحاضرين والتصفيق الحار الذي زاد العرض جمالية. كلهم بلغوا الإمتاع والإبداع، وحتى أبناء الرشيدية، عاشوا لحظات موسيقية ممتعة على غرار المايسترو نبيل زميط، والمطرب سفيان الزايدي الذي أبدع هو الآخر وكأنه يغني للمرة الأولى.. إنها "الحياة" التي بعثها محمد علي كمون في تراث موسيقي تونسي بدأ جمهوره يضمحل شيئا فشيئا.