في البداية نريد الإشارة إلى أن الضوابط المتعارف عليها ونواميس العمل السياسي كما تدرس وتمارس لم تعد قواعد قابلة للتطبيق على واقع وتقلبات المشهد السياسي والحزبي في تونس ولعل المرء يبدو في حيرة من أمره إذا ما كنا بصدد التأسيس لنظريات جديدة قد تدرس مستقبلا كاستثناء تونسي إذا ما كتب لهذه المرحلة العسيرة من الانتقال الديمقراطي أن تكلل بديمقراطية حقيقية أم أن المسألة لا تعدو أن تتجاوز حيز التخبط والعبث. الدافع الأساسي نحو هذا الطرح هو ما فاح من مطبخ كواليس النداء بشأن مستقبل رئيس حكومة الوحدة الوطنية يوسف الشاهد والعضو في حزب نداء تونس الذي أتى به رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في صائفة 2016 كمقترح مفاجئ للموقعين على وثيقة قرطاج لخلافة الحبيب الصيد وترؤس حكومة الوحدة الوطنية لكن يبدو أن الظروف والحسابات حينها التي دفعت بالشاهد من حقيبة الشؤون المحلية مباشرة إلى القصبة تغيرت ولم يعد للرجل الخصال ذاتها أو ربما الطموحات ذاتها في تقدير شق من الندائيين. وبرزت أمس بأكثر وضوح هذه الصراعات والاختلافات داخل نداء تونس حول شخص رئيس الحكومة وبقائه على رأس مهامه من عدمه. فبعد نشر نص وثيقة تقييمية لعمل حكومة الشاهد نسبت لخالد شوكات بصفته رئيس مدير مركز نداء تونس للدراسات وتضمنت في ثناياها إقرارا ضمنيا بإخفاق الحكومة على أكثر من صعيد وقدمت الوثيقة بأنها مقدمة ومؤشر على قرب الإطاحة بالشاهد. خرج الناطق الرسمي باسم نداء تونس المنجي الحرباوي عبر «الصباح نيوز» ليتبرأ من وثيقة شوكات قائلا إنها تلزمه وان حزبه لم يكلف أحدا لإجراء تقييم لأعمال حكومة الوحدة الوطنية، كما أكد تمسك النداء بحكومة الوحدة الوطنية وبيوسف الشاهد. وثائق وتصريحات مضادة جاءت لتؤكد عمق الخلاف داخل النداء وصراعات الأجنحة داخله لا سيما وأن مؤشرات سابقة دفعت باتجاه توقع انفجار الوضع الندائي في علاقة بالشاهد قريبا حيث صرح محمد عبو مؤسس التيار الديمقراطي أول أمس بوجود معلومات عن إقالة رئيس الحكومة يوسف الشاهد. والجميع يتذكر واقعة تهديد الشاهد علنا ابان جنازة المرحوم سليم شاكر بأن استبعاده ليست إلا مسألة وقت وأيضا ما صدر عن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي عندما طلب من الشاهد صراحة تحديد موقفه من مسألة ترشحه لانتخابات 2019. ويرجح الكثير من المراقبين أن ترتيبات الإطاحة بالشاهد تتخمر منذ فترة وربما تكون قد مرت اليوم إلى مرحلة جس النبض علنا والتي تجسدت أمس بتسريب وثيقة شوكات. بل إن بعض الملاحظين يذهبون في تحليلهم حد الإشارة إلى علم الشاهد ومحيطه بما يدبر في الغرف المظلمة ولعل تحركات الرجل وزياراته الميدانية «الاستعراضية» في الآونة الأخيرة تندرج في سياق كسب أكثر ما يمكن من النقاط لصالحه في أمتار السباق الأخيرة حتى وإن لم يكن واثقا من الفوز. وجه الشبه والاختلاف مع الصيد تذكر ترتيبات الإطاحة بالشاهد بتلك التي حفت باستبعاد سلفه الصيد والقاسم المشترك بين الرجلين هو ما خلفته سياستهما من غضب في صفوف الندائيين الذين يرفضون قطعا أن يتصرف رئيس الحكومة خارج الدوائر المرسومة له من الحزب. والصيد سابقا كما الشاهد اليوم لم يلتزما على ما يبدو بالتعليمات في التعيينات وفي الكثير من الملفات آخرها ملف مقاومة الفساد الذي أثار حفيظة النداء والنهضة كما جاء في وثيقة شوكات التي كشفت وجود» مخاوف جدية من النداء والنهضة من التوظيف السياسي لحملة مقاومة الفساد على نحو يمس من مكانتهما ودورهما ويضر بمصالحهما لحساب أطراف مغامرة أوجدت لها موقعها في محيط رئيس الحكومة من خلال استغلال الثغرات الموجودة في النظام السياسي»، استنادا لنص الوثيقة. لكن توجد اختلافات جذرية بين الصيد والشاهد منها أن هذا الأخير يستند إلى جملة من المؤيدات قد تدفعه للدفاع عن حظوظه خلافا لسلفه الذي لم يبد مدافعا شرسا بأي حال من الأحوال. وإن خير الصيد الانسحاب في صمت فليس واردا أن يسلك الشاهد الطريق ذاته لعدة اعتبارات منها: -مازال الشاهد في مقتبل العمر وفي عنفوان طموحه السياسي وجرب طعم السلطة وربما لن يتنازل بسهولة لا سيما أن استطلاعات الراي تمنحه منذ فترة أسبقية من حيث منسوب ثقة الراي العام في شخصه بعد اعلان حربه على الفساد وهذا قد يكون محفزا له للتفكير جيدا في مستقبله السياسي. - ينتمى الشاهد إلى عائلة «آل السبسي» إن صح التعبير وإن كان خصمه السياسي اللدود في النداء حافظ قائد السبسي من ذوي القربة فإن صراع الأجنحة داخل العائلة الذي تحدث عنه سابقا رضا بلحاج رئيس حزب تونس أولا بعد تجربته في كواليس قصر قرطاج، قد يكون عاملا حاسما في مستقبل الشاهد .. -يبدو أن الشاهد قد تفطن باكرا لما ينتظره مما دفعه للتفكير بمعية المحيطين به في إحاطة نفسه بحزام داعم لخياراته وشخصه تقوده الجبهة البرلمانية الوسطية التقدمية بزعامة محسن مرزوق أمين عام مشروع تونس وياسين ابراهيم رئيس حزب آفاق تونس إذ يؤكد المحللون أنها جبهة تعمل لفائدة حاكم القصبة في مواجهة إخوته. فرضية الإنذار يظل التأكيد على أن فرضية الحديث عن ترتيبات الإطاحة بالشاهد وهذه التسريبات تهدف لإعادة رئيس الحكومة «إلى رشده» وحمله على العودة إلى حضيرة الندائيين والعمل في انسجام مع خيارات الرئيس التنفيذي للحزب وشركائه في الحكم. ونذكر في هذا السياق بما قاله سابقا القيادي بنداء تونس خالد شوكات خلال استضافته في برنامج إذاعي «ستوديو شمس»، حين وصف رئيس الحكومة يوسف الشاهد ب"الضعيف" معتبرا إدارته للملفات السياسية والحوار السياسي لا تتم بالطريقة المرضية وبأنه يريد تجاوز نتائج انتخابات أكتوبر 2014 وخاطبه قائلا أن «لو تلتفت للنداء وتستمع اليه سيكون مستقبلك السياسي أفضل". وفي اجابته عن سؤال هل أن الشاهد يمثل النداء في الحكومة، قال شوكات "هذا بيده.. يستحيل نقطع شعرة معاوية والقطيعة لا تأتي من نداء تونس". وفي انتظار ما تحمله الأيام القادمة من تطورات وإيضاحات بشأن مستقبل رئيس الحكومة تجدر الإشارة إلى أن تواصل محاولات خلط الأوراق لحسابات حزبية انتخابية يزيد للأسف من تدني منسوب ثقة التونسيين في الطبقة السياسية وفي قدرة أحزاب ما بعد 14 جانفي على الخروج من دائرة المصلحة الخاصة إلى دائرة المصلحة العامة ومصلحة البلاد ولعل ذلك ما يفسر بلوغ نسب تشاؤم التونسيين أعلى مستوياتها مثلما تثبت ذلك نتائج استطلاعات الرأي. وإن كان كثيرون في السابق يواجهون حملات شيطنة الأحزاب بالقول إنها رجس من فعل أعداء الثورة والمتربصين بها إلا أن ممارسات الأحزاب وتعاطيهم مع الشأن العام تدفع للأسف أو تكاد نحو الإقرار أن نخبتنا السياسية والحزبية هي العقبة الحقيقية أمام الانتقال الديمقراطي في تونس، وعليهم الاستفاقة قبل فوات الأوان وحتى لا تصح في حقهم مقولة يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه.