التأمت خلال الأسبوع الماضي ندوة هي واحدة من عشرات الندوات التي درست ظاهرة الانقطاع المدرسي. وقد اعتمدت الندوة دراسة حول أسباب الانقطاع المدرسي والعوامل المؤدية إليه. وفي هذا الاطار سأتناول في مقال هذا الأسبوع ظاهرة لا تختص بها منظومتنا التربوية ولكن تؤكد الدراسات أنها مؤثرة جدا في حظوظ نجاح المتعلمين أو فشلهم هي ظاهرة غياب العدالة التربوية في المنظومات التربوية معرَجا على غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع أيضا وبالتالي تأثير ذلك في استفحال ظاهرة الانقطاع المدرسي. غياب العدالة الاجتماعية تتفق الدراسات الاجتماعية في مجال علم الاجتماع التربوي على أن المتعلمين يلتحقون بالمدرسة وهم غير متساوين أساسا في حظوظ النجاح بسبب تفاوت المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسرة وبسبب اختلاف المستوى الدراسي والثقافي للأولياء. ورغم استفادة أطفال الأسر الفقيرة أو الأطفال الذين ينحدرون من الريف أو من الأحياء المهمشة في المدن من دخولهم إلى المدرسة، إلا أن نتائجهم الدراسية عموما بقيت حسب الدراسات أقل من نتائج أبناء الاطارات أو أبناء أصحاب الشهادات العليا أو الذين ينتمون إلى عائلات مرفهة أو المنحدرين من المدينة، رغم وجود عدة استثناءات ورغم تطور نسب النجاح بالنسبة لأبناء الطبقة الوسطى خاصة. إن المدرسة تتغذى دوما من متغيرات المجتمع الذي فيه تشتغل وهي تعكس التفاوت الموجود في ذلك المجتمع لكنها مطالبة بإصلاح تبعات ذلك التفاوت من خلال سياسات تربوية ملائمة حتى لا يتسبب في تفاوت النتائج. فهل فعلت المدرسة التونسية ذلك وجعلت حظوظ النجاح متساوية بين الجميع؟ غياب العدالة التربوية رغم دمقرطة التعليم في تونس وفتح المجال أمام الجميع للتعلم حتى حققت تونس نسبة تمدرس تقارب 100%، فإن ذلك لا يجعلنا نتجاهل غياب العدالة التربوية في المنظومة التونسية لأسباب قد تكون المنظومة غير مسؤولة عنها لكنها موجودة. وغياب العدالة سبب أساسي للإخفاق المدرسي إذ لا يخفى على أحد اليوم أن التلاميذ الذين يفشلون في البكالوريا أو ينجحون بمعدلات متدنية هم تلاميذ المدارس المنتمين إلى المناطق الداخلية المهمشة في البلاد وإلى الأحياء المهمشة أيضا في المدن الكبرى والتي تعاني من الفقر والأمية والبطالة وغياب التنمية. فلو عدنا إلى نتائج البكالوريا خلال الدورات الأخيرة للاحظنا ذلك بوضوح من خلال اختلال النتائج بين الجهات وبين المؤسسات التربوية في نفس الجهة عندما نجد أن نسب النجاح في تلك المناطق هي أقل من المعدل الوطني ونعني بذلك كلا من القصرين وقفصة وسيدي بوزيد وباجة وجندوبة والكاف وسليانة وقبلي وتوزر وزغوان وتطاوين والقيروان ويضاف إليها قابس ومنوبة. بينما تسيطر الجهات الساحلية المرفهة على المراتب الأولى. والملاحظ هنا أن مساهمة المدرسة التونسية في الرفع من مستوى تكوين التلاميذ ليصل عدد هام منهم إلى مستوى البكالوريا ويتجاوزه إلى التعليم العالي لم يغير من الترتيب الاجتماعي والاقتصادي للمناطق المهمشة. وبصورة أخرى فإن المدرسة لم تقم سوى بتغيير مفهوم «مبدأ تكافؤ الفرص» فأصبح الحظ الذي يتمتع به المتعلمون مقتصرا على سهولة الدخول إلى المدرسة دون حواجز، لكن داخلها كرست المدرسة على مدى سنين عديدة آليات وتمشيات تقوم على النخبوية والمنافسة وتعمل على التخلص ممن لم يتمكنوا من التأقلم مع هذا التمشي، دون أن توفر لهم ملاذا تعليميا احتياطيا يستوعب الجميع ويفتح لهم أبواب الأمل في المستقبل. إضافة إلى ذلك فإن عدم تطبيق العدالة التربوية بين المؤسسات التربوية في الجهات المهمشة أو الريفية مقارنة بالجهات المرفهة أو الحضرية يتجلى في عدة مظاهر منها نوعية المدرسين الذين يعملون في تلك المناطق المهمشة التي تعتبر مناطق عبور بالنسبة إليهم لذلك عادة ما تجد فيها مدرسين حديثي العهد بالمهنة تنقصهم الخبرة وليسوا من أصيلي المنطقة، وكذلك اهتراء البنية التحتية والفضاءات التربوية التي عادة ما تكون أقل مستوى من مثيلاتها في المناطق المرفهة بل وأحيانا ينعدم الرفاه التربوي فيها. كما لا توفر تلك المدارس أنشطة ترفيهية أو ثقافية للتلاميذ وأحيانا لا يتوفر فيها النشاط الرياضي. نضيف إلى ذلك الظروف الاجتماعية وضحالة الحياة الثقافية في محيط المدرسة وعدم تعميم المواصلات المدرسية وعدم توفر فضاءات في المدرسة للتلاميذ الذين يضطرون للبقاء في الشارع بين الحصتين الصباحية والمسائية لبعد المدرسة عن سكنهم كما لا ننسى اعتماد التلاميذ المرفهين على الدروس الخاصة.. وغيرها من الظروف التي تجعل من عدم توفر العدالة التربوية عاملا مهما من عوامل الفشل المدرسي. إن الضغط على هذا المتغير الذي يفرضه التفاوت الجهوي في بلادنا سيضمن حتما تراجعا في عدد المنقطعين عن الدراسة والذي يزيد حاليا عن 5 بالمائة من مجموع التلاميذ بالمؤسسات التربوية التونسية. والمدرسة هي الضامن الوحيد للعدالة التربوية داخلها حتى وإن أثرت فيها عوامل متأتية من محيطها. وهي القادرة على التقليص من نسبة الهدر التربوي داخلها إذا توفرت لها الامكانات والموارد اللازمة. * باحث وخبير تربوي