إعداد :مازن كرشيد مستشار قانوني بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد - في إطار تطبيق الاستراتيجيّة الوطنيّة لمكافحة الفساد 2016-2020 ونحو تنفيذ بنود اتفاقية الامم المتّحدة لمكافحة الفساد التي صادقت عليها البلاد التونسية سنة 2008 والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد لسنة 2010، وتعزيزا لآليّات الكشف عن مواطن الفساد وتتبع مرتكبيه وتكريسا لمبادئ النزاهة الشفافيّة والواجبات التي تمليها المواطنة، يتنزّل القانون عدد 10 المؤرّخ في 07 مارس 2017 المتعلّق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين. وتعود جذور فكرة الحماية التي أقرّها المشرّع بهذا القانون إلى زمن بعيد، عندما كانت الدول والامبراطوريات توفّر الحماية للمنشقين عن الدول المعادية لها مقابل تقديم المعلومات والمعطيات التي قد تصنع الفارق في الحرب. وفي عصرنا هذا، نشأت في الفكرة في الولاياتالمتحدةالامريكية في السبعينات كإجراء يندرج ضمن برنامج كامل لتفكيك التنظيمات الاجرامية. وكان اوّل تجسيد لهذه الفكرة سنة 1963 عندما تعاون جوزيف فالاتشي مع السلط وكسر قانون الصمت وادلى امام لجنة الكونغرس باعترافات حول الخلية الاجراميّة التي كان ينتمي اليها والتابعة للكوزا نوسترا، وكان عندها محاطا بقرابة 200 مرافق من ضباط شرطة نيويورك ومكتب التحقيقات الفيدرالي تحسبا لأي اجراء انتقامي من المافيا التي تبحث عنه لقتله ورصدت مكافئة بقيمة مائة ألف دولار لقاتله. وقضّى فالاتشي بقية حياته في السجن بتدابير وقائية خاصة كعزله عن بقية المساجين وتمكينه من اعداد طعامه بنفسه خوفا من اغتياله بواسطة تسميم الاكل المقدم له. ولأول مرّة في التاريخ، تمكنت الحكومة الامريكية من معرفة التنظيم الهيكلي للمافيا وطريقة تنقل المعلومة داخلها ومراكز القرار ما مكّنها من الحدّ من سطوتها ووضع حد لإجرامها. ونتيجة لكلّ ذلك، اصدرت الولاياتالمتحدةالامريكية في سنة 1970 قانون مكافحة الجريمة المنضمة الذي ينص على وجوب حماية الشهود. وقد تعزّز انتشار فكرة الحماية خاصّة في ايطاليا بعد تعاون توماسو بوسكيتا وسلفاتوري كونتورنو مع العدالة فيما صار يعرف بقضيّة ماكسي. وقد اسفرت شهادتهما امام القضاء إلى سجن المئات من اعضاء المافيا. وقد اتّخذت الحكومة الايطالية تدابير وقائيّة لحمايتهما من العمليات الانتقامية التي قد تدبر لهها، تتمثّل في نقلة بوسكيتا إلى إقامة جديدة بنيو يورك وبهوية مغايرة وذلك بالتعاون مع حكومة الولاياتالمتحدة الأمريكيّة. وقد ذاع صيت قضيّة ماكسي بفضل الأفلام الوثائقيّة التي اشتغلت على الموضوع وخاصّة بعد أن تناولها مسلسل «زعيم الزعماء» «المؤلّه» في إطار محاكمة جيليو اندريوتي وركّز على الدور الذي لعبته الاعترافات في إثبات تورّط التنظيمات الاجرامية في ايطاليا وكشف تلاعبها بالأسواق المالية والتجارية وتجارة المخدّرات وعلاقتها المشبوهة برجال الدولة الذين يوفرون لها الغطاء السياسي واهميتها في النصر الذي حققه القضاء الايطالي في بداية التسعينات. وهكذا بدأ يتشكّل مفهوم الحماية الذي عرّفه القانون التونسي على أنّه «جملة الاجراءات الهادفة إلى حماية المبلّغ عن الفساد سواء كان ذات طبيعية أو معنويّة ضدّ مختلف أشكال الانتقام أو التمييز التي قد تسلط عليه بسبب تبليغه عن حالات الفساد، سواء اتّخذ الانتقام من المبلّغ شكل مضايقات مستمرّة أو عقوبات مقنعة وبصفة عامة كلّ إجراء تعسّفي في حقّه بما في ذلك الاجراءات التأديبيّة كالعزل والاعفاء أو رفض الترقية أو رفض طلب النقلة أو النقلة التعسّفيّة أو شكّل اعتداء جسدي أو معنوي أو التهديد بهما يسلّط ضدّ كلّ شخص وثيق الصلة به.» ويقصد بالمبلّغ «كلّ شخص طبيعي أو معنوي يقوم عن حسن نية بإبلاغ السلطات المختصّة بمعلومات تمثّل قرائن جديّة أو تبعث على الاعتقاد جديّا بوجود أعمال فساد قصد الكشف عن مرتكبيها». وقد أثر المصطلح عدّة نقاشات خلال مداولات مجلس نوّاب الشعب نظرا لعدم تفريق أغلب التونسيين بين معاني لفظتي «المبلّغ» و»الواشي» التي تحيلنا إلى الممارسات الاستبدادية الصادرة عن النظام السابق وعن الاستعمار. وتمّ اقتراح اعتماد كلمة «كاشف الفساد» التي تعتمدها لبنان على سبيل المثال، وهي الترجمة الأقرب لكلمة «lanceur d'alerte» بالمعتمدة من قبل المشرع الفرنسي أو «whistleblower» المعتمدة في الولايات المتّحدة وكندا وبريطانيا ودول الكومنولث11. وفي نهاية المطاف استقر الحال على لفظة «مبلّغ» لأنّها هي المعتمدة في الترجمة العربيّة لمعاهدة الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد ومختلف الاتفاقيات الأخرى. وتبرز أهميّة الحماية كالتزام يحمّله الدستور للدولة من خلال الفصول 22 و23 و24 التي تقرّ بقدسيّة الحقّ في الحياة وواجب حماية كرامة الذات البشريّة وحرمة الجسد ومنع التعذيب المادي والمعنوي وحماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصيّة. وتتأكّد هذه الأهميّة من خلال المعاهدات الدوليّة والاقليميّة -من بينها اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد التي صادقت عليها البلاد التونسيّة سنة 2008 في مادتها 33 والاتفاقية العربيّة لمكافحة الفساد سنة 2010، التي تلزم الدول الأعضاء باتّخاذ تدابير من اجل توفير حماية للمبلّغين من أيّة معاملة لا مسوّغ لها لأيّ شخص يقوم بإبلاغ السلطات المختصّة بأيّ وقائع تتعلّق بأفعال مجرّمة. وقد تأخّر المشرّع التونسي في إيلاء اهتمامه بالموضوع مقارنة بالدول الأخرى، فعلى سبيل المثال القانون الجنائي الإيطالي الصادر في 1930 وفّر حصانة جزئيّة وكليّة من العقوبة للمجرمين المتعاونين مع العدالة. وانتظر حتّى إصدار القانون الأساسي عدد 26 المؤرّخ في 07/08/2015 ولمتعلّق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال ثمّ القانون الأساسي عدد 10 المؤرّخ في 07/03/2017 المتعلّق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين والذي يعدّ الأوّل من نوعه في تاريخ البلاد. وتبرز أهمية هذا القانون من خلال إعطائه شكل القانون الأساسي الذي يتّسم بالعلويّة على بقيّة القوانين، إذ أنّه تضمّن مسائل تتعلّق بالحريات وحقوق الإنسان والواجبات الأساسية للمواطنة وإضافات على مستوى تنظيم الهيئة الدستورية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والإدارات العموميّة وفي مشمولات القضاء الإداري. ومبدئيّا يبدو أنّ المشرّع التونسي لم يذهب في اتجاه توحيد النصوص المتعلّقة بالإبلاغ والحماية على غرار عدّة دول مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة وكوريا الجنوبيّة التي تتوزّع فيها النصوص على عدّة قوانين، وعلى العكس من فرنسا التي قامت بتجميع النصوص المتعلّقة بمكافحة الفساد في نصّ قانوني واحد معروف باسم Loi Sapin II وقد يهدّد هذا التوجّه الأمن القانوني، إذ أنّ عدم بين النصوص المتعلّقة بمكافحة الفساد والتنصيص على إجراءات لدى المحكمة الإدارية وإجراءات جزائية جديدة خارج القوانين الخاصّة بها قد يؤدّي إلى تضاربها. وإضافة إلى كون هذا القانون يمثّل ضمانا وحافزا للمبلغين الذين يتعرّضون لخطر ما،فإنّه تكريم للمبلّغين الذين عرّضوا أنفسهم للتهديدات والانتقامات التي طالتهم نتيجة التبليغ في الفترة الماضية، إذ أن لهذا القانون مفعول رجعي يشمل المبلغين المتضررين نتيجة تبليغهم قبل صدور القانون ومنذ تأسيس اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد. كما أنّه يساهم في تعزيز ثقافة تعاون المواطن والسلطة أجل المصلحة العامة أجل مكافحة الظواهر غير القانونيّة، ونشر الشعور بالفخر من اجل هذا التعاون لا سيما وان هذا الأمر الذي ارتبط بالوشاية طيلة زمن الاستبداد لقمع المعارضين ومنذ انتصاب الاستعمار الفرنسي للإطاحة بالمناضلين الوطنيين، فإنّه منح الضمانات للمبلغين تساهم في ومن اجل اشعارهم بالراحة والطمأنينة، بل وبالفخر... )يتبع(