في كل مرة يفتح فيها ملف البنوك العمومية الثلاثة، إلا وانقسمت الآراء بين مؤيد لفكرة التفويت فيها لصالح الخواص كحل من حلول إنعاشها، وبين رافض لها لعدة اعتبارات أهمها المحافظة على هذه المؤسسات المالية في صبغتها العمومية والعمل على دعمها ومساندتها بضخ أموال لإعادة هيكلتها. وبعد الاجتماع الذي انعقد بحر الأسبوع المنقضي تحت قبة مجلس النواب والذي جمع وزير المالية ورؤساء مديري البنوك العمومية الثلاثة بنواب الشعب، للنظر في سير متابعة إصلاح وإعادة هيكلة هذه المؤسسات المالية العمومية، نتبيّن أن مسألة التفويت فيها باتت أمرا مستبعدا حسب مسؤولي الحكومة على الأقل في الوقت الراهن. فقد أكد هذه المرة وزير المالية رضا شلغوم على الدور الهام الذي تلعبه هذه البنوك في الدورة الاقتصادية من خلال الأرقام التي تم عرضها والتي تفيد تقدما ملحوظا في برنامج الهيكلة ومدى قدرة هذه المؤسسات في التصرف في المخاطر وتقدم سير برامجها الخاصة بتطوير المنظومات المعلوماتية وتنويع المنتجات من اجل المساهمة في تمويل الاقتصاد. واستبعد الوزير قرار التفويت في هذه البنوك العمومية، مشيرا إلى أنها ستواصل نشاطها لإنجاح برامج هيكلتها وإثبات قدرة رأس المال العمومي على تحقيق نتائج إيجابية في قادم الأيام. ومن جهته، بين الوزير المكلف لدى رئيس الحكومة التونسية بالإصلاحات الكبرى، توفيق الراجحي في تصريح سبق الاجتماع الأخير أن ملف البنوك العمومية سيتم الحسم فيه نهائيا هذا العام إما بالتفويت فيها أو دمج بعضها أو المواصلة على الوضع الراهن باعتبار أن هذا القرار هو سياسي ومبني على موقف اقتصادي لاتخاذ أفضل الحلول للبنوك العمومية. وأمام مراهنة الحكومات المتعاقبة ما بعد ثورة 14 جانفي على إنقاذ هذه المؤسسات المالية العمومية من خلال ضخ تمويلات كبيرة لإعادة هيكلتها، طالب بعض المختصين في الشأن المالي بضرورة التفويت فيها لصالح الخواص باعتبارها باتت تمثل عبئا على الدولة. فقد أفاد رئيس هيئة الجمعية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية، احمد الكرم حول هذه المسالة بان الدولة اليوم ليست في حاجة إلى بنوك عمومية بما أن لها ذراع مالي قوي متمثل في صندوق الودائع والأمانات والذي يتصرف في أموال كبيرة بعد ما خصصت له الدولة اعتمادات هامة، مبينا أن إجراء التفويت فيها لا محيد عنه، كما هو الشأن في كل البلدان النامية. حلول بديلة عن التفويت من جهة أخرى، اعتبر محمد الصادق جبنون المختص في الشأن المالي والاقتصادي ل «الصباح» بان هذه المؤسسات المالية التي خضعت إلى عملية إعادة الهيكلة منذ سنة 2013 أعطت نتائج ايجابية جزئيا في الفترة الأخيرة وبدأت تتعافى وتأخذ طريقها نحو الأفضل ويمكن أن تتعافى بصفة كلية في حال تواصلت برامج الإصلاح وإعادة الهيكلة. كما أفاد جبنون بأن هذه البنوك لعبت دورا رياديا في تحديد سياسات الدولة فهي التي ساهمت في تمويل المؤسسات العمومية، كما أن عددا كبيرا من التونسيين مازال يحتاج إلى خدمات هذه البنوك في صبغتها العمومية خاصة الطبقة الوسطى والضعيفة التي لا يمكن لها فتح حسابات جارية وبنكية لدى المؤسسات البنكية والمالية الخاصة. كذلك، أشار محدثنا إلى الدور الهام للبنوك العمومية التي استطاعت أن تمول ما يناهز ال 41 بالمائة من مشاريع الاستثمار في سنة 2014 في الوقت الذي كانت تشتكي منه بلادنا من تركيز البنوك الخاصة على قروض الاستهلاك.. بالمقابل، اقترح جبنون حلولا أخرى عوضا عن الالتجاء إلى التفويت في البنوك العمومية الثلاثة والإبقاء عليها في صيغتها العمومية وتتمثل أساسا في ضرورة تطويرها وضم البريد التونسي إليها في بنك أو مؤسسة عمومية قابضة أو ما يعرف ب»الهولدينغ» كما هو متعارف عليه في العديد من البلدان الخارجية خاصة بلدان الخليج.. كما أكد جبنون على أهمية تفويت الدولة في مساهماتها في البنوك والمؤسسات المالية الخاصة، مبينا أن هذه العملية تمت سابقا بنجاح بعد أن فوتت الدولة في بعض مساهماتها في عدد من البنوك على غرار البنك القطري... واعتبر محدثنا أنه وفي صورة التفكير في الخوصصة فمن الضروري أن تنسج بلادنا على منوال البلدان المجاورة مثل المغرب بان تكون الخوصصة فقط في آليات التسيير والرقابة، مؤكدا على ضرورة الابتعاد عن القرارات الارتجالية والتفكير في إرساء حوار وطني شامل في اقرب الآجال تتحدد فيه ملامح مستقبل القطاع العمومي في تونس. وفي ذات السياق، أفاد الحبيب كاراولي الرئيس المدير العام لبنك «كابيتال بارتنرز» ل «الصباح» بأن البنوك العمومية الثلاثة ساهمت في بناء الاقتصاد المحلي وفي بناء أول نسيج صناعي ومؤسساتي في تونس في الوقت الذي كانت تستحوذ فيه على نسبة مخاطر عالية، مبينا أن أهم الحلول لتجاوز الأزمة التي يعاني منها القطاع البنكي عموما هي التخلي عن المساهمات البسيطة للدولة في 15 بنكا خاصا.. واعتبر كراولي أن أهم الحلول الناجعة هي الإبقاء على الشركة التونسية للبنك ومعها بنك تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة والبنك التونسي للتضامن ينضاف إليها صندوق الودائع والأمانات وضم كل هذه الهياكل في قطب بنكي عمومي يكون الذراع المالية للدولة دون التخلي عن بقية البنوك العمومية... وبالرغم من أهمية هذه الحلول التي قد تجنب الدولة الالتجاء إلى حل التفويت في البنوك العمومية الثلاثة من اجل تجاوز الأزمة المالية التي تعاني منها، إلا أن فكرة التفويت في هذه المؤسسات المالية ذات الصبغة العمومية تبقى قائمة في الوقت الراهن تزامنا مع الشروع في إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2018 والذي من المنتظر أن تطرح هذه المسالة بأكثر جدية باعتبار أن الدولة مطالبة بتوفير موارد مالية تناهز ال 10 مليار دينار من بينها موارد متأتية من الخوصصة والتفويت.. وكانت الجامعة العامة للبنوك والمؤسسات العمومية المنضوية تحت الاتحاد التونسي للشغل قد عبرت في وقت سابق عن رفضها لإجراء التفويت في البنوك العمومية، مؤكدة في بيان أصدرته عن تمسكها بتعصير البنوك والمؤسسات المالية الوطنية مشيرة إلى أن ضعف المؤسسات العمومية يكمن أساسا في عدم نجاعة آليات التشريع والإشراف لا في ملكيّة الدولة لرأس المال ولا في جدية وحرفية المسيرين والموظفين بالقطاع البنكي العمومي. ويبقى مصير ملف البنوك العمومية الثلاثة غامضا وسط الآراء والحلول المتباينة بشأنه منذ أن فتح رسميا مع حكومة علي العريض عن طريق إطلاق أول عمليّة تدقيق شاملة وإقرار رسملة هذه المؤسسات المالية في ما بعد تحديدا سنة 2015 مع حكومة الحبيب الصيد، في انتظار الحسم فيه نهائيا في السنة المقبلة حسب حكومة الوحدة الوطنية. ◗ وفاء بن محمد قالوا حول نتائجهم المالية: الحبيب بلحاج قويدر)الرئيس المدير العام للبنك الوطني الفلاحي) « إن مرونة التصرف في المجال، الذي يوفره القطاع البنكي الخاص، تمكن من تحصيل أجزاء من الديون وإعادة استخدامها. وكل مؤشرات النجاعة الواردة بعقد برنامج اعادة الهيكلة، فاقت نسبة انجازها تلك المحددة وان البنك جدد العهد مع النتائج الايجابية (دون احتساب المبالغ المتأتية من التفويت). أحمد رجيبة)الرئيس المدير العام لبنك الإسكان): «إنّ النتائج المحققة سنة 2017 فاقت ما تمّ رسمه بمخطط الأعمال، إذ بلغت ودائع الحرفاء مع موفى سنة 2017، حوالي 5938م.د مقابل قيمة 4071م.د في 2013، أي بارتفاع قدره 14،3 بالمائة. أما الناتج البنكي الصافي فقد زاد بدوره ليصل الى نحو 384 م.د، نهاية 2017، مقابل 200،7 م.د قبل سنة، أي بتطور يعادل 24،9 بالمائة. وتم خلال الفترة (2013/2017) الحط من الديون المصنفة من 21،6 بالمائة في 2013 إلى 13،77 بالمائة نهاية السنة المنقضية. سمير سعيد)الرئيس المدير العام للشركة التونسية للبنك): «الناتج الصافي للبنك زاد بنسبة 18 بالمائة فيما تطورت النتيجة الصافية، قبل القيام بالتدقيق الشامل، ب20 بالمائة مع تطور الودائع ب 7 بالمائة، خلال سنة 2017. أن المرحلة الصعبة مرت وأن سنة 2018، ستشهد قطع خطوات إضافية على درب استكمال عملية إعادة هيكلة الشركة التونسية للبنك وتحقيق أهداف تجارية أكبر فيما ستكون سنة 2019، سنة الإقلاع الحقيقي، حيث ستتركز الجهود أكثر على الحط تدريجيا من الديون المصنفة لدى البنك، الى مستوى 15 بالمائة، في أفق سنة 2021.