يبدو أنّنا نحتاج الى الكثير حتى يترسّخ لدى المسؤولين سواء كانوا وزراء أو موظفين سامين او رؤساء احزاب عرف "الاستقالة" أو ثقافة تقديم الاستقالة كلّما ارتكبوا خطأ جسيما يستوجب القيام بهذه الخطوة. فمن المفارقات انه كلّما كانت حصيلة الأخطاء كارثية كلما تشبّث المسؤول أكثر بمنصبه بالنظر الى ان المسؤولية من وجهة نظرهم "تشريفا وليس تكليفا".. من هذا المنطلق تضعنا حادثة وفاة التّلميذتين سرور الهيشري ورحمة السعيدي في الحريق الذي اندلع في مبيت مدرستهما في تالة وغيرها من الحوادث الفظيعة الأخرى على غرار حادثة وقوع عمارة سوسة أمام سؤال ملح: لماذا لا يبادر المسؤولون إلى الاستقالة كلما كان هناك تقصيرا أو خطأ جسيما؟ ولماذا لا يستسيغون الفكرة؟ والحال أنه في البلدان المتقدمة والديمقراطية يبادر المسؤولون بتقديم استقالتهم دون حتى أن يرتكبوا أخطاء فادحة على غرار ما حصل مؤخّرا حيث فاجأ وزير المساعدات البريطاني الطبقة السياسية البريطانية بتقديمه استقالته أمام مجلس العموم البريطاني جراء حضوره قاعة الاجتماعات متأخّرا. فالرجل يرى انه اخطأ ومن وجهة نظره فان النتيجة الطبيعية هو أن يتحمل مسؤولسته ويبادر بتقديم استقالته. لكن ثقافة تحمل المسؤولية بعيدة كل البعد عن كل من يتولى مراكز قيادية بالنظر إلى أن "مسؤولينا" يفضلون الإقالة غصبا على القيام بهذه الخطوة... وبالعودة الى حادثة وفاة التلميذتين حرقا فقد ندّد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بيان له ما وصفه "باللامبالاة والتهاون الكبير" الذي أصبح يميّز أداء المسؤولين على إدارة الشأن التربوي في ظل استفحال أزمة التعليم على جميع الأصعدة، كما ورد في نص البيان انه في ظل تكرار "هذه الفواجع في مؤسساتنا التربوية" فمن الضروري أن يتحمّل المسؤولون عن ذلك كامل المسؤولية على قاعدة "أن المسؤول الذي لا يقوم بواجبه يجب أن يستقيل". كما طالب أول أمس عدد من نواب الشعب بإقالة وزير التربية فورا وبتكوين لجنة تحقيق في حادثة الاحتراق. لكن قاعدة "المسؤول الذي لا يقوم بواجبه يجب أن يستقيل" التي دعا إلى العمل بها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا تنسحب على وزارة التربية فحسب بالنظر إلى أنّ هذه الثقافة التي يدعو إلى ترسيخها المنتدى من الضروري ان تتجاوز وزارة التربية لتنسحب على باقي المؤسسات في ظل ارتكاب بعض المسؤولين لاخطاء فادحة ومع ذلك يواصلون مباشرة مهامهم دون حسيب او رقيب. والشهادات في هذا الإطار لا تحصى ولا تعدّ لعل أبرزها حوادث القطارات التي أسفرت عن ضحايا ورغم تعالي الأصوات المطالبة بتحمل المسؤولين مسؤولية أخطائهم لكن ما من مجيب... وفي تفاعله مع المسألة يرى مسعود الرمضاني الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تصريح ل "الصباح" أنه رغم تكرّر الكوارث في الكثير من المجالات إلا أن ثقافة الاستقالة لا وجود لها مشيرا إلى انه من الضروري الإيمان بمفهوم الدولة والمسؤولية موضحا أن الوزير أو المسؤول هو قبل كل شيء يباشر مهمّة ما ومن البديهي أن يتحمل مسؤوليته. كما أورد الرمضاني انه بالتوازي مع غياب ثقافة تحمل المسؤولية هناك غياب أيضا لثقافة طلب الاعتذار، كما اعتبر المتحدث انه لا وجود اليوم لما يعرف "بالوزراء الجمهوريين" الذين يتحملون مسؤولياتهم ويعتذرون للمواطن. من جهة أخرى وفي قراءته للمسالة يشير الباحث في علم الاجتماع طارق بلحاج محمد في تصريح ل"الصباح" أن المسؤوليات العليا في الدولة عند الشعوب المتقدمة هي تكليف وليست تشريفا، وهي مرادفة لثقافة ومبادئ تحمل المسؤولية والاعتراف بالأخطاء والاعتذار عند حدوث تقصير أو خلل أو خطإ ولنا في ما أقدم عليه وزير بريطاني مؤخرا من تقديم استقالته نظرا لتأخره بعض الدقائق على جلسة مجلس النواب خير دليل على ذلك.. وأضاف بلحاج محمد إن الأمر عندنا مختلف نظرا لغياب هذه الثقافة عند جل من يتبوؤون مراكز قيادية في الدولة أو في أحزابهم أو منظماتهم. فالمسؤولية عندنا هي من وجهة نظره تشريف أكثر منها تكليف وهي جائزة تعطى للموالي لحزب أو لجهة أو لمجموعة معينة أو هي عبارة عن غنيمة لخدمات قدمها هذا المسؤول أو ذاك بعيدا عن منطق خدمة المرفق العام ولذلك نجد هؤلاء المسؤولين يتشبثون بكراسيهم ومناصبهم مهما حدث من كوارث أو تجاوزات حتى تقع إقالتهم غصبا عنهم قائلا:"ليس غريبا أن نرى اليوم مسؤولين كبار في الدولة من وزراء ومستشارين يتنصلون من تحمل مسؤولياتهم أو ينخرطون في شبكات فساد وحتى في شبكات إجرامية تضر بالدولة والمرفق العام". ليخلص المتحدث الى القول بان غياب ثقافة تحمل المسؤولية وطرق اختيار وتعيين المسؤولين وارتباطات هؤولاء المسؤولين بأولياء نعمتهم وأصحاب الفضل في تعيينهم يجعل منهم حريصين على مواقعهم أكثر من حرصهم على المرفق العام وحسن اشتغاله ويجعل منهم أبعد ما يكون على الاستقالة أو الاعتذار عند حدوث خرق أو مكروه على حد تشخيصه.