مقترحات مخالفة للنصوص الشرعية الثابتة في القرآن والسنّة، ذلك كان حكم عدد من أساتذة جامعة الزيتونة على مقترحات لجنة الحريات الفردية والمساواة المتعلّقة بالمساواة في الميراث وإلغاء المهر من عقود الزواج وإسناد لقب الأم للأبناء عند بلوغهم سنّ الرشد وزواج المسلمة بغير المسلم. هذا الحكم الذي حسم موقف أحد طرفي الجدال الذي انطلق منذ أن أعلن رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي عن مبادرته للمساواة في الميراث ومسألة زواج المسلمة بغير المسلم،يقابله موقف ثمنّ المبادرة ورأى فيها تكريسا لمبدإ المساواة الكاملة كمبدإ دستوري لا لبس فيه،موقف يرتكز على مقاربات حقوقية وعلى قيم إنسانية كونية لا علاقة، تجد نفسها كل مرّة في مواجهة "النصّ الديني" في تجلياته الأكثر انغلاقا وتكلّسا ورفضا للاجتهاد والتفكير. قد تكون أعمال لجنة الحرّيات رمت حجرا في البرك الراكدة منذ عقود ولكن ليس من السهل مواجهة "الإسلام النصوصي" الذين يتمسك أصحابه بالآيات ولا يؤمنون بقراءة آيات القرآن في سياقاتها التاريخية والاجتماعية ويحولون دون أدنى نفس اجتهادي في القضايا الخلافية. وفي بيان منسوب ل"أساتذة جامعة الزيتونة" عبّروا خلاله عن موقفهم من مقترحات لجنة الحرّيات الفردية والمساواة،مستندين على كون جامعة الزيتونة هي "الوريثة الشرعية والتاريخية للجامع الأعظم" ومن حقها وواجبها أن تُستشار في هذه الأمور. وقد اعتبر بيان أساتذة الجامعة أن تركيبة لجنة الحرّيات الفردية والمساواة تفتقر في تكوينها لأهل الاختصاص ومقترحاتها تتعارض مع أحكام الدستور في فصله الأوّل والسادس والسابع. «لا اجتهاد في النصّ» تحت شعار "لا اجتهاد مع النصّ" اعتبر أساتذة جامعة الزيتونة أن "أصول أحكام المواريث من المحكمات الثابتة بالأدلّة والصريحة كتابا وسنّة وإجماعا وما كان كذلك فلا مجال فيه للنظر والتأويل والاجتهاد" و أن "المساواة المعتبرة في التشريع تؤدي لتحقيق العدل بين الناس..ولا معنى للكلام في اختيار المساواة في الميراث". استند أساتذة جامعة الزيتونة وغيرهم من المفكرين أن"للذكر مثل حظ الأنثيين" نصّ قرآني صريح في مسألة الميراث ولا يقبل الاجتهاد ولا التأويل،لكن إذا سلّمنا جدلا إن النصوص القرآنية لا تقبل الاجتهاد فلما قبلت الخرق عند إلغاء الرقّ، فالآية السادسة من سورة "المؤمنون" تقول "إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين" والمقصود هنا بملك اليمين هو "الرقيق" دون لبس أو ارتياب، ولكن الرقّ ألغي رغم أن الآية صريحة! و كانت تونس من أوّل الدول الإسلامية التي ألغت الرقّ على مرأى ومسمع من فقهاء وعلماء الجامع الأعظم الذين لم يعترضوا على ذلك.. ثم في مسألة الحدود فان كل الدول الإسلامية دون استثناء ألغت تطبيق الحدود بما في ذلك قطع يد السارق ورجم الزانية والى غيرها من الحدود التي نصّت عليها الشريعة. وتمسّك أساتذة جامعة الزيتونة بعدم زواج إلغاء المهر باعتبارها هدية "واجبة على الأزواج إكراما لزوجاتهم به يُقرّر الفارق بين النكاح والمخادنة والسفاح وأن مجلة الأحوال الشخصية ألغت التركيز على القيمة المالية بما قد يوحي بفكرة "دونية المرأة"."فعدد كبير من المفكرين الإسلاميين ومن بينهم الباحثة ألفة يوسف، اعتبروا أن مسألة المهر لا تعدو أن تكون عادة اجتماعية لم يمنعها القرآن ولكنه لم يوجبها في الآن نفسه. كما رأى أساتذة الزيتونة "ان زواج المسلمة من غير المسلم انعقد الاجماع في منعه وهو ما استقرت عليه الفتوى حديثا وقديما"، ولكن أغلب القراءات الحديثة تحثّ على ضرورة أن تكون هناك قراءات جديدة لآيات الزواج بغير المسلمين والتي تختلف بين النساء والرجال مع ضرورة أخذ بسياقات نزول هذه الآيات،وخاصّة التاريخية منها. وختم أساتذة الزيتونة بيانهم بمطالبة "سماحة المفتي بتبيين الحكم الشرعي بيانا صريحا واضحا في المسائل المقترحة "محذّرين مما وصفوه "بتقسيم المجتمع بين مسلمين وغير مسلمين ودفعه لطائفية مقيتة "وفق نصّ البيان. وبعيدا عن "المحاججة المدنية" وعن القراءة التقدمية والحداثية للنصّ المقدّس التي طالما دعا لها مفكرين أفذاذ على غرار حامد أبو زيد ومحمد أركون الذين يتمسكون بالنظرية التاريخية في استقراء الآيات بمعنى أن القرآن هو نصّ تاريخي أيضا يعبّر عن واقع المجتمع في الحقبة التي نزل فيها وبالتالي لا يمكن أن يصلح لكل زمان ومكان وللحياة البشرية في كل الحقب والظروف،يبحث البعض عن براهينهم وأدلّتهم في رفض التغيير والاجتهاد. هذا الفكر المستمر منذ قرون بالتحكّم في مصائر ملايين البشر،رغم افرازاته "المرعبة" من قبيل "داعش" وأخواتها،وبنفس التكلّس والتقوقع داخل النصوص يواجه هذا الفكر في كل الدول الاسلامية كل محاولات التغيير والتأثير والتفكير في استكانة وفي تكريس لإيمان "طقوسي" يأخذ بالعادات أكثر من المقاصد . بيان انتهى بنفس الاتهامات الجاهزة والمبطنة التي تتداول منذ قرون والتي تشهر "المقدّس" في وجه كل محاولة للتفكير والتغيير، بعيدا عن منطق المحاججة بل من خلال منطق "الخروج" و"المروق" وحتى الردّة عن الدين، الذي يفسح المجال لاحقا ل"التكفير" بما قد ينجرّ عنه من "تفجير" وفي كل ذلك تستمر معركة "الهوّيات المتشنّجة" دون حسم،معركة "عبثية" تفتقد لشجاعة حسم الموقف وتحمّل تبعاته. ◗ منية العرفاوي رئيس الجمعية التونسية لأئمة المساجد ل«الصباح»: اليوم منابر الجمعة لإبراز موقف الشرع من مقترحات لجنة الحرّيات من بين الدعوات التي أطلقها أساتذة بجامعة الزيتونة وعدد من الأئمة هي أن تحاول منابر صلاة الجمعة الى منابر للحديث في مقترحات لجنة الحرّيات الفردية والمساواة، وفي هذا السياق كان لنا حوار خاطف مع الشيخ سالم العدالي رئيس الجمعية التونسية لأئمة المساجد الذي أكّد أن الأئمة من واجبهم تناول كل الشؤون العامّة للأمّة واليوم في صلاة الجمعة سيتم الحديث في هذه المقترحات من على منابر صلاة الجمعة وستكون للحديث وإبراز موقف الشرع من هذه المقترحات التي قال عنها أنها تمسّ من "الروح الإسلامية والإيمانية للشعب التونسي" مؤيدا بذلك موقف أساتذة جامعة الزيتونة باعتبار أن المسائل المُثارة "وردت في آيات قطعية، جازمة بالنصّ القرآني والأحاديث النبوية".. *لكن انتم لم ترفضوا المحاججة المدنية وتشهرون "المنع" و"التحريم" في وجه هذه المبادرات؟ "المحاججة المدنية" تستقيم ان كانوا مسلمين، والمسلمون يحتكمون للقرآن.. أمّا وان كانوا غير مسلمين لن نتحاور معهم ولكن لنا معهم معاملة أخرى. *أتشكّك في إسلام أعضاء اللجنة؟ الأمر ليس كذلك ولكن لماذا طرحوا هذه القضايا وهي من المسلّمات الشرعية مثل زواج المسلمة من غير المسلم وعندنا أدلّة وبراهين. *لكن أنتم عبرّتم عن استيائكم كون اللجنة لم تتواصل مع أهل الاختصاص ولكن أهل الاختصاص يبدو أنه لا مجال لمجادلتهم لأنهم حسموا موقفهم ب"النصّ"؟ هذه اللجنة ولو اكتفت بإعداد مشروعها ولم تخرجه الى الإعلام ودعت للنقاش في غرف مغلقة لكان هناك ربما تفاعل أخر مع مقترحاتها ولكن المجتمع المسلم لن يقبل بالمسّ بمقدساته ومعتقداته *يعني لو تم إشراككم هل كنتم لتجدوا مخارج فقهية لهذه المسائل الشائكة؟ بالنسبة للمساواة هم طالبوا في المساواة في الارث وهذه فيها حكم رباني قاطع ولا يمكن الاجتهاد فيها وبالتالي أحكامها نهائية وكذلك بالنسبة للمهر في الإسلام الذي هو إكراما للأسرة التي هي لبنة من لبنات المجتمع المبني على المودّة والرحمة. *البعض دعا دار الافتاء والمفتي لحسم الجدل وابراز قول الشرع في كل هذه المسائل؟ نحن مطمئنون لموقف دار الافتاء التي لها مسؤولية في ادارة الافتاء وحسم الاختلاف بالرجوع الى النصّ القرآني والى الآيات والأحاديث وهذه كلها مسائل لا يمكن الاختلاف حولها وفق قول الشرع،واذا خالفت دار الافتاء الشرع بشكل مباشر أو غير مباشر فاننا سنواجه ذلك بالدليل والحجة ونقابلها في سجالات ونقاشات مفتوحة. *لكن بعض المفكرين يرون أن غلق باب الاجتهاد غير منطقي لأن المسلمين في كل الأزمنة خرقوا النصّ الديني مثلا عندما ألغوا الرق أو عندما لم يطبّقوا الحدود ومنها حدّ السرقة بقطع اليد وتعويضه بعقوبة السجن؟ مسائل الحدود يطول النقاش حولها وهي خاضعة لعوامل اقتصادية واجتماعية وعمر بن الخطاب عندما ألغى حدّ السرقة كان عام مجاعة لكن اليوم كثير من السياسيين حين يفشلون في الاهتمام بالقضايا الأساسية يعمدون الى الالهاء والى اشغال الرأي العام .