على غير العادة، اكتفت السلطات الرسمية أمس ممثلة في الرئاسات الثلاث بحضور موكب رسمي احتفالي بمناسبة اليوم العالمي ليعد الشغل بمدينة الثقافة، موكب تم فيه تكريم الفائزين بجوائز العامل المثالي واللجان الاستشارية دون تكبد عناء إلقاء خطب رسمية لا من قبل رئيس الجمهورية ولا من قبل رئيس الحكومة تطمئن الشغالين بالفكر والساعد وخاصة أصحاب الأجور الزهيدة وعملة الآليات الهشة والفئات الضعيفة والمتوسطة والمتقاعدين الذين أرهقت معظمهم قساوة الأسعار الملتهبة وغلاء المعيشة.. كان البعض ينتظر - وتونس تحتفي بالعيد العالمي للشغل- أن يبادر رئيس الجمهورية بطمأنة الناس والرأي العام بالخوض في ما يشغلهم من انتظارات لقرارات أو إجراءات اجتماعية تزيح عنهم قلق اللحظة وتبعث فيهم أمل العيش، والتحدث إليهم في ما يهمهم من تطلعات لواقع اجتماعي أفضل ولسياسة دولة تؤسس لحوار اجتماعي دائم يجمع ولا يفرق ويدفع نحو ثقافة العمل والانتاج.. لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وكأن بلادنا تنعم برغد العيش، وكأن العمال والأجراء والطبقات الكادحة والفئات الاجتماعية الهشة راضية مرضية زاهدة فيما هي فيه من ضنك العيش وفقر جاثم ومرض مستفحل ودواء مفقود وأجرة أو جراية شهرية زهيدة لا قيمة لها ولا معنى أمام المصاريف الباهضة وتكاليف الحياة المستعصية.. غابت خطابات الطمأنة وظل القلق والانتظار وحلّت مشاعر الريبة والشك والإحباط، لكأن الشغالين ليسوا في حاجة إلى تقدير وجودهم وتثمين عرقهم وبث فيهم أمل الاستمرار والثقة في عيش أفضل ومستقبل يمحو عنهم تعب سنين.. فهل أن واقعنا اليوم لا يتحمل رسائل سياسية ايجابية، أم أن للأمر علاقة بالانتخابات البلدية؟ لا يختلف اثنان، في أن البلاد تمر بمرحلة حرجة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا في ظل صعوبات ومخاوف غير مسبوقة تشغل بال الشغالين والمتقاعدين لعل أهمها تدهور مقدرتهم الشرائية بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار وارتفاع تكلفة المعيشة في جميع المستويات فضلا عن اثقال كاهل الأجراء والموظفين بأداءات متنوعة بسبب التوظيف المستمر للضرائب بشكل تعسفي وسنوي على الأجور والمداخيل والتي شملت السلع والخدمات والمواد الاستهلاكية والأساسية والتي يدفع ثمنها دائما الأجراء والموظفون وخاصة منهم الفئات الاجتماعية التي تعمل في مهن قاسية او وفق آليات عمل مهمشة.. فلماذا – والحال تلك- لم تبادر السلطة التنفيذية إلى استغلال هذا اليوم لطمأنة الرأي العام حول: أولا: موضوع المفاوضات الاجتماعية للزيادة في الأجور في القطاعين العام والخاص محور رئيسي يهم الشغالين الذين هم في حاجة إلى رسائل طمأنة تأتيهم من أعلى هرم السلطة وتؤكد لهم سلامة المسار والمضي قدما في خيار المفاوضات خاصة مع وجود تحفظات من مانحين دوليين بخصوص الزيادات في الأجور.. ثانيا، طمأنة المتقاعدين عن مصير جراياتهم في أن تضمن السلطة في عدم المساس منها سواء بالنقصان او الاقتطاع او الحجب او تأخير صرفها.. وهنا نستحضر تجديد دعوة نور الدين الطبوبي أمين عام اتحاد الشغل أمس في رفع المظلمة المسلطة على المتقاعدين الذين حرموا من تعديل جراياتهم بعد الزيادات في الأجور لسنتي 2016 و2017. ثالثا، الكشف عن مصير الإصلاحات في الصناديق الاجتماعية رغم أنها ما تزال قيد التفاوض بين الحكومة والأطراف الاجتماعية، من خلال التطرق على الأقل إلى مسار المفاوضات والنقاط التي تم التوافق في شأنها مثل التقاعد، والترفيع في المساهمات.. رابعا، التأكيد على حق مئات الآلاف من الفئات الاجتماعية الهشة في الزيادة في الأجر الأدنى المهني المضمون الذي لم يراجع منذ سنة 2016.. وأيضا في عدم توظيف أداءات مجحفة في أجورهم الشهرية الضعيفة خاصة تلك الفئات التي يقل دخلها الشهري عن 500 دينار.. خامسا، كان يمكن التطرق إلى مآل مجلس الحوار الاجتماعي الذي ما يزال ينتظر التفعيل وهو المؤسسة الضامنة لحوار ثلاثي دائم يضمن الحفاظ على مبادئ السلم الاجتماعية.. في الواقع، كان يمكن لرئيس الجمهورية باعتباره الضامن لوحدة التونسيين والساهر على ضمان حقوقهم وهو أيضا الراعي لمفاوضات سياسية صعبة وشاقة انطلقت منذ أسابيع تجمع الفرقاء السياسيين بما فيهم منظمات وطنية (اتحاد الشغل، اتحاد الأعراف..) حول ما يسمى ب»وثيقة قرطاج 2..»، أن يلامس بعض مشاغل الشعب التونسي وانتظاراته في هكذا مناسبة مع الميل أكثر إلى جوانب متصلة بالظرف الاجتماعي والاقتصادي ولم لا الجانب المتصل بالحوار السياسي (مصير الحكومة الحالية واستمرارية الدولة والحفاظ على المكاسب الاجتماعية للأجراء..) دون الوقوع في محاذير دعائية حزبية أو سفسطة سياسية مع تجنب الكشف عن كواليس المفاوضات الجارية..