أحدث التقرير السنوي الذي أصدرته الهيئة العليا للرقابة مؤخّرا، بما في ذلك الدراسة الخصوصية غير المسبوقة حول العشرة أخطاء الأكثر شيوعا في مجال التصرف العمومي، وقعا في مستوى القطاع العام. ويجدر التأكيد أن هذا التقرير وضع الإصبع على مكمن الداء من خلال استعراض الإخلالات والأخطاء التي تشوب التصرف العمومي وتعيقه في بعض الأحيان، وظلّت مسكوتا عنها لفترة طويلة مثل عطل المرض في القطاع العام والساعات الإضافية وحوكمة إبرام الصفقات وتنفيذها وختمها وإحكام التصرّف في العربات والسيارات الإدارية. وتأكيدا على أهمية المسائل التي تعرّض لها تقرير الهيئة العليا، بادرت رئاسة الحكومة، باتخاذ الإجراءات الملموسة قصد تعميم استغلال منظومة الشراءات العمومية على الخط «تونبس»، كأداة حصرية للتعامل في مجال الصفقات العمومية. ومن شأن تعميم هذه المنظومة، أن يمكّن من تفادي عدم إحكام تحديد الحاجيات وعدم التقيد بالإجراءات والمقتضيات التي تقتضيها المنافسة النزيهة والمتابعة للمشاريع والرقابة على تنفيذ الصفقات العمومية خاصة وأنها تمثّل نسبة 18 % من قيمة الناتج الداخلي الخام لبلادنا. من جهة أخرى، أفاد رئيس الهيئة العليا للرقابة عقب لقائه برئيس الحكومة، أن الحكومة وعدت بإجراء إصلاحات انطلاقا من توصيات الهيئة. في نفس السياق، تفاعلت وزارة التربية مع التوصيات الواردة بالتقرير السنوي للهيئة العليا للرقابة بعنوان سنتي 2016 و2017، خاصة في ما يتعلق بعطل المرض والساعات الإضافية في قطاع التربية والتعليم، وقرّرت نشر قائمة سوداء في بعض الأطباء المورّطين في إسناد شهادات طبية مرضية على سبيل المجاملة لغير مستحقيها من منظوري الوزارة. وحمّلت الهيئة العليا للرقابة المسؤولية في ذلك، إلى تساهل عدّة أطراف في انتشار ظاهرة الغيابات المحسوبة على عطل المرض سواء طويلة أو قصيرة الأمد، على غرار بعض المؤسسات الإستشفائية وعدد من الأطباء الذين منحوا أعدادا مهولة من عطل المرض. علما وأن الهيئة العليا للرقابة تمسك قائمة اسمية بخصوص هؤلاء. كما أشار السيد كمال العيادي رئيس الهيئة العليا للرقابة، إلى الوزارات التي بالغت في استعمال الساعات الإضافية. وخلافا لما كانت تخشاه الهيئة العليا للرقابة من ردود فعل سلبية من قبل الأطراف المعنية بهذه الأخطاء الأكثر شيوعا في مجال التصرف العمومي، فإنّ ما حصل ينمّ على عكس ذلك، حيث لم تبرز ردود فعل تذكر. ممّا اعتبرته الهيئة العليا مؤشّرا ايجابيا وخطوة نحو الإصلاح. ولئن تحرص الهيئة العليا للرقابة على تكريس البعد التوعوي والتحسيسي بشأن الإخلالات والنقائص والأخطاء المشاعة التي قامت برصدها من خلال مختلف التقارير الرقابية، فهي تحرص كذلك، على إرساء البعد الوقائي سعيا منها لمزيد حوكمة التصرف العمومي. وتعتبر الهيئة العليا هذا التفاعل الإيجابي لمختلف المعنيين بالتوصيات الواردة بتقريرها السنوي بعنوان سنتي 2016 و2017، مؤشرا ايجابيا يتوافق مع رغبتها وسياستها في مجال الإصلاح بوصفها هيئة عليا مستقلة ومحايدة تنأى بنفسها عن التشويه وتعمل من أجل الإصلاح.