إن أهمّ ما يميز المجتمع التونسي في هذه السنوات السبع التالية لثورة التغيير المؤرخة في 14 جانفي 2011، ظاهرتان متعاقبتان أولهما الانتحار وثانيهما العنف وسأخصّ كل واحدة من هاتين الظاهرتين بمقال. أمّا الأولى فرمزيتها تتمثل في شخص محمد البوعزيزي الذي نعت بشهيد الثورة ورمز الصمود والمقاومة ورفض التسلط، ونعت بالكادح الساعي إلى رزقه بشرفه، وكل هذا الإبراز لشخصية البوعزيزي لا حرج فيه، إلا ما أُبرزَ من مشهد حرقه لنفسه فإنّ النضالات في جميع صورها في العوالم والمجتمعات القديمة والحديثة، لم تعرف مثل هذا الأسلوب في النضال، ولا أدلّ على ذلك من أعْلام خلَّدوا أسماءهم في الذاكرة الإنسانية من أمثال غاندي وغيفارا ومانديلا وفي العالم الإسلامي من أمثال فرحات حشاد وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري وغيرهم، طبعوا تاريخ بلدانهم ورسموا نضالاتهم بصمودهم، وتحمّلهم للسجون، والتعذيب، والقتل بالرصاص، أو بنصب المشانق لهم. وأمّا أَنْ يحرق أحدهم نفسه، للتعبير عن رفضه للواقع المهين كما فعل البوعزيزي فإنه لم يحصل أبدا، فقد نُظِرَ دوما إلى الانتحار على أنه مظهرٌ سلبي، مرضيّ، ليس فيه إرادة الحياة أو الصمود، بل هو اندحارٌ عن الحياة ومقتٌ لها وهروب منها - بطريقة مرذولة، وقد 0عتُبِرَ ما مارسه البوعزيزي، من حرق نفسه بدعةً مذمومة في النضال السياسي. ولسنا الآن في مجال محاكمته أو تبخيس طريقة نضاله، فقد يكون له من المبررات ما دفعه إلى مثل هذا الأسلوب في رفض واقعه، وليس لنا الحق بحال أن نحكم على مصيره الأخروي، من خلال ثقافتنا الدينية، فالله سبحانه وتعالى العليم بحاله، الغافر - إن شاء - بفضله ورحمته، ولكنْ ما لمسناه بعد الثورة هو إبراز دلالة الشهادة من المنظور الديني وما أعدّ لهذا الشهيد - شهيد الثورة - من عظيم الجزاء والثواب عند الله، وامتلأت المجلاّت والصحف بصوره، وتحدّث الخطباء والدعاة والإعلاميون والمثقفون عن هذا الأسلوب من النضال بما أبهرَ شباب الأمّة وكهولها، وانغمس في هذا الإنشاد والعزف الانتحاري كثير من السياسيين والمفكرين بدافع الإعجاب أو بدافع الانتهازية الحزبية والانتخابية ولم يكن يدور بخلْدِ هؤلاء ما أسّسوه من عقيدة الانتحار في الأمّة، وأنّ هذا هو الأسلوب الأمثل للتعبير عن مشاعر الاضطهاد والظلم والحيف، التي يُحسّ بها المجتمع، فوقفنا على ظواهر مفزعة من الانتحار لا تزال تتعاقبُ، منها ما يزيد عن ثلاثمائة عمليةِ انتحارٍ في سنة واحدة في صفوف الأطفال والشباب أكثرهم من أبناء المدارس والمؤسّسات التربوية، في واقع يختلف تماما عن واقع البوعزيزي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فلم تكن أسباب الانتحار، التي دفعت البوعزيزي إلى إنهاء حياته، هي نفسها التي دفعت هؤلاء الأطفال، وأغرب شيء في هذا الانتحار أن يمسَّ شريحة عُمُرية لم تتجاوز سنّ العشرين، وهو زمان الإقبال على الحياة والاندفاع لتحقيق الذات فيها، وأن يصبح زمان الطفولة والشباب بهذه الكآبة والبؤس، فهذا ممّا لا تقبله جميع النّظريات الفلسفية والفكريّة ولا تستطيع تفسيره، وأصبح الانتحار بسبب التضخيم الإعلامي، والتنويه الثقافي والاجتماعي، مبتغًى رفيعا ومظهرا كريما، ووقفنا شيئا فشيئا على حقيقة مُرَّةٍ صنعناها - صنما- بأنفسنا، وهي طريقة الانتحار بنفس "الشاكلة البوعزيزيّة "، وهي سكب البنزين على الجسم وإشعال النار فيه، بما يتمّ به أبشع صور الموت وأكثرها إيلاما، ونرى زهراتٍ وأشبالاً في إقبال الحياة، يموتون بطريقة تتفطّر لها القلوب، وقد كنت نبّهت في بداية الثورة، في مناسبات علمية ودينية، على خطر هذا الشّحن الإعلامي، وتداعياته على الشباب اليائس من الحياة الكريمة. وبالأسلوب نفسه وهو الإحراق بإشعال البنزين، توجّه الأطفال والشباب إلى إحراق المبيتات وكذلك مواقع النفوذ الأمنيّ والقضائيّ والصحيّ من المراكز والمحاكم والمستشفيات وغيرها، وطال الأمر كذلك مواقع العمل وآلات الإنتاج وهو شكل من الانتحار الجماعي أو الوطني، بعد أن كان الانتحار في المستوى الفردي وبعد أن كان الشخص المنتحر، يُنهي حياته الفرديّة الخاصّة بنفسه، تحوّل إلى عامل ساعٍ إلى إنهاء الحياة الاجتماعية، من خلال إعدام مظاهر هذه الحياة وأساسيّاتها ووقفنا على شباب مهزوم، قَانِطٍ، لا يُؤمن بالصبر والمكابدة، فإما حياة كما يَأملونَها وإمّا انتحار وفناء، وليس هكذا تُصنع الشّعوب العظيمة وتُقام الحضارات المبهرة، وما هكذا عرفنا الحياة بهذه المطلبية والاشتهاء، بل عرفنا الحياة كدحا ولذّة في التعب وعرفناها فرحة في تحقيق الآمال بالجهد والكدّ والرضا بالمتوفَّر الموجود، عرفناها سعيا إلى الأحسن وطوقا على الأفضل، فأين هؤلاء الخائرون القاصرون عن هذه المراقي الرفيعة، وكيف لنا أن نُدخل بهجة الحياة في نفوس أبنائنا ومنظورينا بعد أن سلبناها من نفوسهم، وملأنا مكانها يأسًا وقنوطا، وإن العيب ليس فيهم ولكن في الذّي حبّب إليهم الموت والفناء في الذي أطفأ نور الحياة في أفئدتهم. وكان الذي وقع في الوسط التلمذيّ والجامعي، في هذه السنة والتي قبلها من التجاذبات بين الهياكل النقابية القطاعية والجهوية وبين وزارتي التربية والتعليم العالي، من رفض التدريس، ومن رفض تسليم الامتحانات وإجرائها إذا لم تُلبَّ مطالبهم، ما عمّق ظاهرة العزوف عن الدراسة التي لا نتصور كيف تكون حياة الطفل أو الشاب بدونها لما يمكنه أن يتركه الفراغ منها، من تدمير للبناء العقلي والنفسي عند هذه الطبقة الصاعدة، المقبلة على الحياة، ولقد كان رجال التعليم والتربية دائما محرك الطموح والثقة بالنفس ورفع الهمة والإقبال على تحمل المسؤولية. فعادوا وليس لهم شيء من هذا كله وأصبحوا وليس لهم ما يقدّمونه، وإنما قدّموا بدله اللاّمبالاة، وترك المسؤولية الأخلاقية والقانونية والعبث بمصائر الأمة، وهم أوّلا وآخرا قد عبثوا بمصائر أبنائهم وفي الحديث الشريف :" أي الذنب أكبر عند الله، قال أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قيل: ثم أَيْ يا رسول الله، قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك"، ونحن اليوم نقتلهم، بتيئيسهم، وبدفعهم إلى خارج حواضر المعاهد، ليكونوا في شوارع الضياع بلا مستقبل وبلا عقل وبلا طموح. *رئيس جامعة الزّيتونة