من منا لم يردد في الأيام الأخيرة مع الجموع التونسية الثائرة بيت أبي القاسم الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ومن منا لا يذكر آخر كلمة قالها الرئيس المخلوع بن علي :“أنا فهمتكم، إينعم، أنا فهمتكم" ولكن تبين أنه لم يفهم شعبه، مما اضطر هذا الشعب الأبي ان يزيده وضوحا حتى يفهم قائلا :“خبز وماء وبن علي لا" عنها اضطر الطاغية أن يفهم ففر كالجرذ المذعور، فلم يجد أرضا تقله ولا سماء تضله ليبقى ساعات طوالا يبحث له عن مستقر ومقاما . عفوا أخي القارئ فإن قصة شعبي لا تبدأ من هنا! إنها تبدأ قبل ذلك بكثير إنها تبدأ بضحكة عالية وتنتهي بصرخة مدوية. وبين الضحكة والصرخة أحداثا جساما، وليالي طوالى، وأمهات ثكالى، وأطفالا يتامى، وتحقيقا وعذابا، وتجفيفا واستئصالا، وأحزابا مدانة، ومؤسسات مهانة، وجيشا وطنيا مهمشا ومقالا. إنها تبدأ بضحكة عالية رفعها بن علي مباشرة إثر انقلاب 1987 عندما قفز إلى سدة الحكم بعد أن تنكر لولي نعمته، وتنتهي بصرخة محمد البوعزيزي المدوية وهو يشعل النار في جسده بعد أن سكب عليه البنزين، نسأل الله أن يقبله شهيدا. كانت الضحكة ساخرة لأنه بمقتضاها غيّر بن علي النشيد الوطني الرسمي السابق إلى نشيد جديد عرف سابقا باسم نشيد الثورة ليرفع به عقيرته. وأهم ما تضمن هذا النشيد الجديد البيت الشهير لأبي القاسم الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر والضحك عادة ما يكون بداية لشيء جديد لأنه رد فعل على حدث ما وموقف منه ولذلك فإن ضحكة بن علي الساخرة تذكرنا بضحكة الفتاة الثراغية وهي ترى طاليس العجوز يقع في الجب لأنه كان يسير في طريقه لا يلتفت إلى أحد منشغلا بإحصاء النجوم فأطلقت ضحكتها العالية وكانت هذه الضحكة إعلانا عن بداية الفلسفة، وأيضا كانت ضحكة بن علي الساخرة مؤذنة ببداية عهد الإستبداد. ولئن التقت ضحكة الفتاة الثراغية وضحكة بن علي في عامل مشترك وهو السخرية، فإن الفرق بينهما شاسع لأن ضحكة الفتاة الثراغية كانت بريئة وصادقة تحمل في طياتها الإبداع والخصوبة فأنتجت ولادة . وأما ضحكة بن علي فإنها كانت صفراء كاذبة وجافة جلبت معها سنين عجافا سادها الفقر والبؤس فقادت إلى الموت. وأما صرخة البوعزيزي وهو يحرق نفسه بعد أن تلقى صفعة على وجهه فإنها كانت صرخة رفض واحتجاج لتعلن هي الأخرى عن بداية عصر جديد أعلن فيه بوعزيزي أنه لن يقبل أن يصفع من جديد ووصلت رسالته إلى اهله وأبناء بلده فارتفعت الصرخات عالية "لن نقبل ان نصفع من جديد" كانت ضحكة بن على عدمية بئيسة أسست للزيف والموت في كل شيء ، فكان موتا للسياسة ، وموتا للثقافة، وموتا للتدين .وكانت صرخة البوعزيزي صرخة حياة هي أشبه بالصرخة التي يطلقها المولود الجديد الذي يخرج من بطن امه فيصرخ وينتفض برجليه الصغيرتين ولكنه يصر على الحياة فيحبو ويتعثر ولكنه في الأخير ينهض ويجري، فصرخته تنفي العدمية وتستعيض عنها بقيم جديدة هي قيم الرفض والعزة والإباء وهي بالتالي قول "لا" والفلسفة هي أيضا أن نقول لا. أشياء لم يكن يفهمها بن علي وظل يردد بيت الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر وهو يريد أن يقول : إني صانع الحياة وأنا هو قدركم، وعندما ينتهي من النشيد يضع يده على صدره، في حركة أولها التونسيون منذ الأيام الأولى لحكمه على أنه يقول لهم: أنتم وما تملكون في جيبي. ولم يتعظ بن علي "بأخبار الأذكياء" وإنما اهتم بما ينقله له "الحمقى والمغفلين" ، فالطيور على أمثالها تقع ولكن فطنة الشعب منحته الفرصة ، لعله يفهم، فصبر وصابر وتركه يطلق ضحكاته بعد كل خطاب وهو يردد
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر وكان الشعب يردد معه وهو يأمل أن يفهم بن علي ويضع حدا لفضاضته وغلظته، والغلظة والفضاضة صفتان رفضتهما منذ الأزل شرائع الأرض والسماء منذ ما قبل حمورابي وأفلاطون والفارابي، وصفتان حذر الله منهما أشرف خلقه وأمره أن لا يكون فضا غليظ القلب كي لا ينفض الناس من حوله.
ولكن بن علي ضحكت له الدنيا فلم يتعض بما حصل لنيرون وهتلر ونابليون، وبقي يضحك بعد كل خطاب وهو يردد إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر حتى أشعلت صرخة البوعزيزي في جهازه الأمني نارا جعلته يتهاوى وخرج الشعب زاحفا وهو يصرخ عاليا: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر إن قصة شعبي أيها القارئ العزيز ليست مثل قصة زرادشت نيتشة لا موعظة فيه ولا أخلاق وإنما هي مليئة بل مشحونة بالمواعظ والأخلاق وأهم موعظة فيها هي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر إذا هي إرادة الحياة التي ضحك عليها بن علي ثلاثا وعشرين سنة تلك التي أيقظتها صيحة البوعزيزي، فأيقظت شعبا ظن بن علي انه استكان وخنع ونسي بيت الشابي الآخر حذار فتحت تالرماد اللهيب ومن يبذر الشوك يجني الجراح فضحكة بن علي كانت كاذبة ومنافقة قادت إلى العدمية والفناء، فجرفت معها صاحبها وأما صيحة البوعزيزي فإنها كانت صيحة حياة أعادت الحياة للشابي ولشعب تونس في نفس الوقت . حسن الطرابلسي ألمانيا 2011