عشرون يوما فقط كانت كافية بالنسبة لمهاتير محمّد ليضرب بقوّة على يدّ الفاسدين في ماليزيا فيمنع رئيس الوزراء السابق نجيب رزاق وزوجته من السفر ويُسارع بفتح تحقيق حول تبخّر مئات المليارات من الدولارات من الصندوق السيادي للدولة ويستعيد لخزينة الدولة جزءا من الأموال المنهوبة، الرجل الذي جاوز التسعين عاما والعائد بعد اعتزاله السياسية إلى منصب رئيس الوزراء من بوابة المعارضة، انطلق منذ أوّل يوم في مباشرته لمهامها في تنفيذ خطّته لإنقاذ بلده ماليزيا التي صنع بنفسه «أسطورة نجاحها» من لوبيات الفساد ونهب الأموال العامّة.. مهاتير محمّد أثبت مرّة أخرى أن الحرب على الفساد لا تُخاض بالشعارات ولا بالكلمات الرنانة ولا بالخطابات العاطفية بل بالإجراءات السريعة وبالقرارات الحاسمة، ولذلك فشلت الحرب على الفساد في تونس، فشل أثبتته الوقائع ولم يعترف به المسؤولون وأوّلهم رئيس الحكومة الذي وظّف في خطابه الأخير «حربه المعلنة» على الفساد لتبرير أسباب استهداف حكومته والمطالبة بتغييرها. «يتوهّم من يعتقد أن إسقاط الحكومة سيوقف الحرب على الفساد» قال يوسف الشاهد ملمّحا إلى كون ما تواجهه الحكومة من مشاكل وعراقيل واتهامات بالفشل هو نتيجة الحرب التي «أعلنها» على الفساد وقال عنها أنه «يا امّا الدولة ويا امّا الفساد وأنه اختار تونس» وقتها استغل رئيس الحكومة «إجرائيا» حالة الطوارئ ليأذن بإيقاف عدد من «الكناترية» وإيقاف «رجل الكواليس» شفيق جرّاية الذي وُصفت قضيته في التآمر على امن الدولة ب"قضية القرن". لكن هل تفضي بضعة إيقافات لعدد من «الكناترية» ولشفيق جراية ومصادرة أملاك عدد منهم الى القول عمليا وفعليا أن الدولة تُحارب أو نجحت في إعلان الحرب على الفساد؟ حرب ولكن .. يوم قال جملته الشهيرة تلك يوم 24 ماي الماضي «اخترت الدولة.. اخترت تونس.. يا الدولة يا الفساد» بدا يوسف الشاهد واثقا من نفسه وممّا يفعله، وفي لحظة تحوّل رئيس الحكومة إلى بطل في أعين الكثير من التونسيين الذين لم يعتادوا برجال دولة يعادون الفساد ويعلنون ذلك صراحة بل يتخذون قرارات بإيقاف الفاسدين والمشبوهين من ناهبي المال العام. يوم بعد هذا التصريح أصدرت وزارة الداخلية بيانا عن تطبيق الفصل الخامس من قانون الطوارئ وعن «وضع أشخاص يعتبر نشاطهم خطيرا على الأمن والنظام العامين تحت الإقامة الجبرية»، تلا ذلك بلاغ لوكالة الدولة العامة لإدارة القضاء العسكري يوم الجمعة حول «قرار قاضي التحقيق العسكري إصدار بطاقة إيداع ضد شفيق جراية كذي شبهة بعد فتح تحقيق في الغرض من اجل «الاعتداء على أمن الدولة الخارجي والخيانة والمشاركة في ذلك ووضع النفس تحت تصرف جيش أجنبي زمن السلم» وفي نفس اليوم عقد رئيس لجنة المصادرة منير الفرشيشي ندوة صحفية أعلن فيها عن مصادرة أملاك وأموال منجي بن رباح شفيق الجراية وياسين الشنوفي ونجيب بن اسماعيل وعلي القريوي وهلال بن مسعود بشر ومنذر جنيح (شقيق عادل وفتحي جنيّح اللذين تم إيقافهما) وكمال بن غلام فرج وذلك تنفيذا لمقتضيات مرسوم المصادرة. هذه الإجراءات السريعة والمتواترة خلال ثلاثة أيام فقط أعطت وقتها صورة للرأي العام بأن هناك جدّية من طرف الحكومة في التصدّي ومحاربة آفة الفساد التي استشرت في المجتمع، كما أعادت هذه الإجراءات الثقة في الدولة وفي أجهزتها الأمنية والقضائية ونال رئيس الحكومة يوسف الشاهد استحسان الرأي العام وباركت حتى أحزاب المعارضة الخطوة التي اتخذها بل أن البعض تظاهر في ساحة القصبة من أجل إبراز دعم الجماهير ومساندتهم له وحثّهم على أن يمضي قدما في حربه على الفساد الذي يُدرك الجميع أنه تسلّل إلى كل مفاصل الدولة والى أروقة الحكم وأن يوسف الشاهد سيجد معارضة ومقاومة من المستفيدين والمتمعشين من الفاسدين، وهؤلاء نافذون في الدولة وفي الأحزاب وفي البرلمان. لكن عمليات المداهمة وإيقاف الشخصيات الضالعة في الفساد وفي التهريب الذي ينخر الاقتصاد الوطني وفي التآمر على الأمن القومي التونسي وفي التخابر مع جهات أجنبية في بلد يدرك الجميع أنه بات مرتعا للجواسيس وللمنظمات الدولية المشبوهة وما اغتيال محمّد الزواري إلا دليل قاطع على ذلك، توقّفت بعد مدّة تاركة خلفها بعد أن أثارت موجة من الانتقادات لرئيس الحكومة بأن «حربه انتقائية» غايتها تصفية حسابات داخلية في نداء تونس خاصّة في علاقة بملف شفيق جرّاية، بعد تصريحات سابقة لقيادات صفّ أوّل في الحزب ومنهم رئيس كتلته البرلمانية سفيان طوبال بأن شفيق جرّاية ساهم في تمويل حزب نداء تونس . رجال الظلّ قبل أيام من اعلان يوسف الشاهد الحرب على الفساد وإيقاف عدد من المشتبه فيهم أصدرت «مجموعة الأزمات الدولية» في 10 ماي من السنة الماضية تقريرا مثيرا حول مؤشرات ومدركات الفساد في تونس حذّرت فيه المنظّمة من أنّ «مظاهر الإثراء في المناصب السياسية والإدارية والمحسوبية والسمسرة أصبحت تنخر الإدارة التونسية والطبقة السياسة العليا في تونس استشرت داخل الأحزاب و بلغت حتّى البرلمان «الذي قالت عنه المنظمة أنه « أصبح مركز التقاء الشبكات الزبائنية وأنّ عديدا من النوّاب أصبحوا مختصين في السمسرة وترقية الأعمال» وقد خلص التقرير أيضا الى كون الشعب أصبح يعتبر أجهزة الدولة «أجهزة مافيوزية « قال أيضا أن هناك «حوالي 300 رجل ظلّ يتحكمون في تونس ويعرقلون مسار الإصلاحات والمشاريع التنموية وفق أجنداتهم ومصالحهم الشخصية.» وأنّ «الفاعلين الاقتصاديين الذّين موّلوا الحملة الانتخابية لبعض الأحزاب السياسية التي وصلت إلى الحكم بعد انتخابات 2014 أصبحوا هم من يعينون الوزراء وكتاب الدولة وكوادر الإدارة المركزية والجهوية والمحلية بما في ذلك الديوانة وقوّات الأمن الداخلي.» وفق ما أورده التقرير المنشور لمنظمة «مجموعة الأزمات الدولية». وفي ظل كل هذه المعطيات التي عكستها عدّة تقارير دولية ذات مصداقية وأكّدت استشراء الفساد و»الزبونية» و الرشوة واختلاس المال العام، انطلقت حملة الحرب على الفساد وتعثّرت بعد بضعة خطوات، لأنها فشلت في مواجهة اللوبيات المؤثّرة والفاعلة في المشهد السياسي وحتى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هُمّش دورها كما أهُملت عشرات القضايا إلى أحالتها على العدالة والنتيجة أن كل «حيتان الفساد» ما زالت ترسم ملامح المشهد السياسي وفق رغبتها وفق مصالحها وما زالت «النخبة الاقتصادية المتمركزة» كما وصفتها تقارير دولية ترسم سياسات الدولة وفق ما يتماشى مع مصلحتها.. واليوم تحتاج الحرب على الفساد التي هي اليوم في حالة «موت سريري» إلى معجزة ما لتضخّ فيها الروح من جديد وتحتاج أهم من كل ذلك إلى رجل يختار فعلا «الدولة» على «الفساد». ◗ منية العرفاوي شفيق جراية وناجم الغرسلي.. «الفساد» في حماية الدولة إلى اليوم ما زال رجل الأعمال المثير للجدل شفيق جرّاية يواجه تهما جديدة، بالإضافة إلى تهمته الكبرى بالتآمر على أمن الدولة الخارجي ووضع نفسه على ذمّة جيش أجنبي والتخابر مع جهة أجنبية، قضية القرن كما وُصفت وسحبت شفيق جراية خلف القضبان، جعلته يسحب بدوره معه مسؤولين أمنيين كبارا خلف القضبان مثل صابر العجيلي مدير الأمن السياحي السابق ومدير وحدة مكافحة الإرهاب سابقا ومدير عام المصالح المختصة عماد عاشور الذي قال جرّاية انه طلب منه التنسيق مع شفيق جراية في ملف يهم إرهابيين تونسيين بليبيا . وسحب معه أيضا وزير الداخلية السابق ناجم الغرسلي الذي تمت إحالته منذ أيام على الدائرة الجنائيّة بالمحكمة العسكريّة وهو بحالة فرار في قضية التآمر على أمن الدولة الخارجي التي فجّرها إيقاف شفيق جراية، وتحوّل فرار ناجم الغرسلي وهروبه الى «لغز كبير» لم تفك شيفراته بعد وقد أكّد الغرسلي خلال بداية التحقيق معه أن المدير العام للأمن الوطني عبد الرحمان بالحاج ورئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد كان يعلم بأمر التعامل مع شفيق جرّاية، الذي يرى البعض أنه ضحية حرب مواقع في حزب نداء تونس وفي الدولة ويرى البعض الآخر أن عملية إيقافه ستبقى أبرز «انجازات» يوسف الشاهد في مسيرته السياسية . والتطوّرات التي شهدتها قضية شفيق جرّاية بعد حوالي سنة من إيقافه تثبت أنها قضية من العيار الثقيل تمسّ أجهزة حسّاسة وشخصيات هامّة في الدولة وأنها قضية ما تزال مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات ولكن ماذا عن البقية لأن شفيق جراية هو مفرد في صيغة الجمع في حرب الدولة على الفساد.