تراجع مخزون تونس من العملة الصعبة مجددا ولأول مرة إلى مستوى 69 يوم توريد بتاريخ 4 سبتمبر 2018 أي ما يناهز 10655 مليون دينار بعد أن كان طيلة الشهرين الماضيين يحوم حول معدل 70 يوم توريد، ومنذ بداية السنة حول معدل يتراوح بين 70 و75 يوم توريد، وذلك وفقا لبيانات منشورة على موقع البنك المركزي. التراجع التاريخي غير المسبوق لمخزون العملة الصعبة أصبح أمرا يبعث على الانشغال ومصدر قلق للمهتمين الاقتصاديين. فرغم تحسن المداخيل السياحية، التي حققت عائدات ب2.32 مليار دينار بزيادة تعادل 281 مليون دينار، وتحويلات التونسيين بالخارج التي بلغت أكثر من 2.56 مليار دينار إلى غاية 20 أوت الماضي بزيادة بنحو 185 مليون دينار مقارنة بذات الفترة من العام الماضي، وأيضا ورغم تحقيق الاقتصاد الوطني نسبة نمو خلال السداسي الأول من السنة الجارية في حدود 2,6 ٪ مقابل 1,9 ٪ قبل سنة، إلا أن مخزون العملة الصعبة واصل انحداره. التفسير الوحيد لتراجع مخزون العملة الصعبة الذي يمكن تقبله حاليا هو تواصل عجز الميزان التجاري الذي تفاقم خلال السداسية الأولى من هذا العام بنسبة 15 بالمائة رغم تحسن الصادرات. وتواصل انهيار الدينار أمام العملات الرئيسية، ما يعني حسابيا أنه لولا تحسن مداخيل السياحة والتونسيين بالخارج لكان يمكن أن يكون الوضع أكثر كارثية؟.. تراجع تاريخي يذكر ان موجودات العملة الصعبة ارتفعت بتاريخ 12 جويلية 2018 بخمس نقاط من 71 يوم توريد، إلى 75 يوم توريد بالتزامن مع موافقة صندوق النقد الدولي خلال تلك الفترة على صرف القسط الرابع من القرض الممدد مع تونس وتبلغ قيمته حوالي 250 مليون دولار. لكن المخزون سرعان ما تبخر مجددا ووجد طريقا للتراجع التدريجي مدفوعا خاصة بتواصل انهيار قيمة الدينار التونسي مقارنة بالعملات الأجنبية الرئيسية مثل الدولار الذي بات يلامس إلى حدود أمس 2.780 دينار، والاورو الذي يعادل 3.206. وفقد بذلك مخزون العملة الصعبة أكثر من 25 يوم توريد مقارنة بما كان عليه مخزون العملة الاحتياطي في أكتوبر 2017 الذي كان يفوق حينذاك معدل ال90 يوم توريد. وكان مجلس إدارة البنك المركزي قد سجل تواصل توسع عجز الميزان التجاري المدفوع بتسارع واردات المواد الطاقية، وقال إنه تجاوز الارتفاع المسجل على مستوى المداخيل السياحية ومداخيل الشغل. وأكد المجلس في بيان أصدره بتاريخ 29 أوت 2018 على ضرورة مواصلة التنسيق مع مختلف الأطراف المعنية قصد إيجاد الحلول للحد من هذه التطورات باعتبار انعكاساتها السلبية على مستوى الموجودات من العملة وكذلك على قيمة الدينار، التي تواصل تراجعها مقابل أهمّ العُملات الأجنبية. ويُعدّ بلوغ احتياطي تونس من العملة الصعبة عتبة 69 يوم توريد أدنى معدل يسجله منذ بداية السنة الجارية بعد أن سجل الاحتياطي لأول مرة منذ عقود انهيارا تاريخيا وقياسيا منذ ديسمبر 2017 حين تخطى حاجز ال90 يوما وهو المعدل العالمي لاحتياطي أي دولة يضمن لها استقرارا ماليا وقدرة على سداد الديون والتوريد والاقتراض. ويعكس الانهيار المتواصل لمخزون العملة الصعبة عجز البنك المركزي والسياسية النقدية المتبعة عن التحكم في نزيف الانهيار رغم الإجراءات المتخذة خاصة في مجال الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية. كما لم يمكّن القسط الرابع من القرض المسند من صندوق النقد الدولي، من إنعاش خزينة الاحتياطي إلا بمقدار ضئيل جدا لم يتعدّ ال5 نقاط قبل أن يعاود المخزون انهياره مجددا، في انتظار صرف القسط الخامس من نفس القرض خلال الشهر القادم بعد موافقة مجلس إدارة صندوق النقد، وأيضا إمكانية صرف البنك الدولي لقرض جديد لتونس يقدر ب500 مليون دينار. انهيار الدينار ويفسر الانخفاض المتواصل لاحتياطي العملة الصعبة أساسا بالانهيار الكبير الذي شهده الدينار التونسي منذ عامين والذي فقد أكثر من 30 بالمائة من قيمته. كما يفسر بازدهار سوق الصرف الموازية وارتفاع حجم الأموال النقدية المتداولة خارج البنوك التي بلغت مستويات قياسية تقدر حاليا ب12805 مليون دينار. وعادة ما ترتفع موجودات العملة الصعبة نتيجة ثلاثة عوامل رئيسية، وهي صرف قروض خارجية بالعملة الصعبة، وتحسن الميزان التجاري، وتحسن المقابيض من نشاط التصدير والسياحة.. ويتطلب الحفاظ على احتياطي العملة في مستويات مطمئنة التحكم في مستوى نمو العجز التجاري وخاصة إعادة تأهيل قطاعات الإنتاج الحيوية الجالبة للعملة الصعبة ومكافحة الأنشطة الموازية التي تعمل بطريقة لا يمكن التحكم فيها على امتصاص الموارد المالية سواء كانت بالدينار أو بالعملة الصعبة.. أزمة سيولة وازدهار السوق الموازية ويعكس الحجم الكبير من الأموال المتداولة أن البنك المركزي والحكومة عجزا عن السيطرة على السوق الموازية المتسبب الرئيسي في ارتفاع حجم السيولة المالية المتداولة خارج المنظومة البنكية ما يفسر بتنامي ظاهرة التهرب الضريبي والجبائي، ومحدودية المعاملات المالية الالكترونية. في سياق متصل، أكد البنك المركزي أنه قام لحدود 4 سبتمبر الجاري بضخ 16270 مليون دينار وهو رقم ضخم للغاية ورقم قياسي جديد، بارتفاع يفوق 15 بالمائة عما كان عليه الأمر قبل شهرين، و60 بالمائة قبل عام، علما أنه إلى حدود 4 جوان 2018 قام البنك المركزي بضخ 14459 مليون دينار في السوق المالية. وعلى سبيل المقارنة كان معدل ضخ السيولة بتاريخ 28 جوان 2017 يقدر ب9182 مليون دينار وهو رقم قياسي آخر يؤكد على وجود أزمة سيولة نقدية في تونس. وفسر مجلس البنك المركزي في آخر بيان له أزمة السيولة المصرفية بتأثرها بشكل خاص بعجز القطاع الخارجي، وأعرب عن انشغاله إزاء تواصل تطوّر الحجم الجُملي لعمليات إعادة تمويل البنوك لدى البنك المركزي، مؤكّدا على أهمية اتخاذ التدابير اللازمة لمزيد التحكم في جملة العوامل التي أدت إلى هذا المسار.