لا خير في شعار يربط الغذاء التونسي بالنفط الليبي.. من المآسي التي تحملها الشعب العراقي طوال عقود تلك التي ارتبطت بقرار الأممالمتحدة "النفط مقابل الغذاء" oil for food التي أريد لها ظاهريا أن تحد من حجم المعاناة التي فرضت على أطفال العراق وكل فئات الشعب العراق بعد الحصار الذي فرض عليه والتي حولت العراق عمليا إلى رهينة في قبضة القوى المتنفذة في الأممالمتحدة.. ويكفي اليوم استعادة هذا القانون ليثير في الأذهان كل مشاهد الابتزاز والاستفزاز والمقايضة الرخيصة لإضعاف العراق وإنهاكه تمهيدا لتدميره.. منع عن العراق توريد احتياجاته الغذائية وغيرها ومنع عن التلاميذ الحصول على أقلام الرصاص خوفا من استعمالها كسلاح.. وهذا ليس سوى غيض من فيض.. اعتمد القانون في 1993 بما بات يسمح له بتصدير جزء من نفطه للحصول على احتياجاته الإنسانية تحت إشراف الأممالمتحدة.. ولو تحققت الأهداف الإنسانية لهان الأمر ولكن ما حدث أن الآلاف من الأطفال العراقيين ماتوا بسبب الجوع وانعدام الحليب أو بسبب المرض وعدم توفر الدواء.. وتبعا لذلك اختار المنسق الإنساني للأمم المتحدة هانزفون اشنويك الذي تولى إدارة المشروع بين 1999 الى 2000 الاستقالة والانسحاب بعد تواتر مسلسل الفضائح والصفقات المشبوهة والرشاوى التي تهافت عليها كبار المسؤولين في الأممالمتحدة ومعهم ممثلو الشركات الكبرى التي استنزفت نفط العراق وراكمت الثروات على حساب المستضعفين حتى أن بعض القضايا والملفات التي تورط فيها عديد المسؤولين زمن الأمين العام السابق بطرس غالي وكوفي عنان لا تزال تبحث عن الحقيقة المغيبة وتتطلع للكشف عن حجم الفساد الذي طغى على تلك الصفقات تحت غطاء الأممالمتحدة وشعار النفط مقابل الغذاء الذي مهد لشرعنة اخطر عملية سطو على ثروة العراق النفطية الذي بات اليوم وبعد عقد ونصف يعاني جراء تداعيات تلك الفترة.. طبعا الأمر لا يتعلق بمسؤولية النظام العراقي في هذا الوضع بعد عملية اجتياح الكويت التي عجزت أو رفضت كل الأطراف العربية وغيرها الإقليمية والدولية الدفع إلى منع تطورها وسحب البساط أمام الحل العسكري الذي سيدخل المنطقة في دوامة من الحروب والصراعات الدموية التي لا تنتهي.. ولكن الأمر يتعلق بقرار أممي اعتمد لخدمة مصالح القوى الكبرى التي ستفرض نفوذها على العرق وتجعله بين مطرقة التقسيم وسندان الإرهاب الذي استوطنه وجعله موطن "الدواعش"... نستعيد المشهد العراقي وما تخلله من مآس بسبب قرار النفط مقابل الغذاء ونحن نستعرض التصريحات غير المسؤولة لوزير تونسي يفتقر للثقافة الديبلوماسية التي يفترض أن تكون أول الاختبارات التي يتعين على كل مسؤول أن يكسبها قبل أن يتحمل أي مسؤولية سياسية أو منصب في الدولة.. فكم من تصريح وكم من كلمة وكم من رسالة في غير موضعها تسببت في أزمة ديبلوماسية بين الدول أو أدت الى قطيعة أو انتهت الى صراعات دموية بسبب أخطاء كارثية لمسؤولين يصرون على تقزيم أنفسهم ويفوتون عليها فرصة الصمت المباح... الواقع أيضا أنه اذا كان إعلان مسؤول في الحكومة التونسية عن مشروع تحت شعار "النفط مقابل الغذاء" عن جهل بأبعاد هذا القانون فإنها فعلا مهزلة إضافية تضاف الى عديد المهازل المرتبطة بالتصريحات غير المحسوبة للمسؤولين في بلادنا في المدة الأخيرة أما ان كان التصريح عن علم ودراية بأبعاد هذا الشعار وأهدافه وملابساته فان المصيبة أكبر ولا عزاء حينئذ للرأي العام الذي بات يحصي تكرر زلات اللسان والتصريحات اللامسؤولة التي لا نخال أننا في حاجة إليها.. وبعد أن مرت تصريحات مهندس الرصد الجوي عبد الرزاق الرحال في أعقاب كارثة الفيضانات التي هزت ولاية نابل وجرفت معها خمس ضحايا بينهم شقيقتين جاءت تصريحات وزير التجارة عمر الباهي الذي بشرنا ببرنامج النفط الليبي مقابل الغذاء التونسي.. ولو أن الوزير تريث قليلا وبحث عن جذور هذا المصطلح لما اعتمده أو اختاره ليعلنه على الملإ ليصدم الرأي العام ويصدم الشركاء والأشقاء الليبيين الذين ندرك جيدا أنهم لن يتوقفوا عند هذا الوصف الذي اعتمده وزير التجارة والذي يرتبط في الأذهان بمنطق الوصاية ومصادرة الحق في السيادة وحق تقرير المصير والتحكم في ثروات وممتلكات الأوطان والشعوب... قد يكون الوزير ضحية أحد أو بعض مستشاريه الذين أوهموه بأهمية هذا المشروع وإغراءاته في عودة تونس الى المشهد الليبي والاستفادة من مشروع إعادة اعمار ليبيا الذي تسعى لإطلاقه الأممالمتحدة في هذا البلد الذي اخترقته الفوضى وحولته الى رهينة في قبضة الشبكات المسلحة والصراعات الدموية والحرب الأهلية التي تترصد هذا البلد وهي مسألة مهمة ومصيرية بين بلدين جمعهما التاريخ والجغرافيا ويجمعهما الحاضر والمستقبل ولكن ليس تحت شعار النفط الليبي مقابل الغذاء التونسي الذي ينم عن قصور في الرؤية وغياب للوعي بأهمية المصير المشترك لشعب واحد في بلدين متجاورين.. فليبيا بالنسبة لتونس أكثر من عنوان مجحف في حق الروابط التونسية الليبية والعكس صحيح أيضا...