15 اكتوير 1963- 15 اكتوبر 2018، حري بنا نحن التونسيين مسؤولين أو نخبا أو مواطنين ونحن نستعد لإحياء الذكرى ال55 لجلاء آخر جندي فرنسي عن أرض تونس، أن نجعل من هذه الذكرى التي ما كان لنا إحياؤها لولا تضحيات ودماء كل الذين اشتركوا في صنع ملحمة بنزرت التاريخية، استعادة رمزية وقيمة هذا الحدث تاريخيا وسياسيا، ولكن ايضا ثقافيا واجتماعيا والدفع جديا نحو "جلاء" البلاد من عقلية الاستنزاف والتدمير الممنهج التي تدفع بتونس نحو المجهول وتهدد جديا بتلاشي مكتسباتها، ولكن أيضا ضياع بقية من حلم بدأ كبيرا، ولكنه ما انفك يتراجع، لتكريس عمليا الشعارات التي ارتبطت بالثورة الشعبية السلمية قبل سبع سنوات نحو العدالة والحرية والكرامة.. وإذا كان العدو قبل معركة الجلاء معلوم والهدف ايضا واضح بالنسبة للتونسيين، فإن الأمر ليس كذلك اليوم. فالعدو لم يعد الاستعمار الاجنبي، ولكنه عدو كامن فينا، متجذر بيننا، حريص على إثارة الفتن وتأجيج الجهويات وتكريس الجهل ونشر عقلية الفوضى والعداء للدولة ومؤسساتها.. وقد وجب الاعتراف بأن الهدف الذي كان يجمع التونسيين في ستينات القرن الماضي لخوض آخر معركة عسكرية والسعي للتخلص الوجود العسكري الفرنسي على كل شبر من أرض تونس كان واضحا، وهو ما مهد لنجاح المهمة التي لم تكن هينة أو من دون تضحيات وخسائر بشرية ومادية، فإن المعركة الراهنة تبدو في نظرنا أخطر وأعقد بالنظر الى هشاشة وغموض المشهد السياسي وغياب هدف وطني ومشروع مجتمعي مستقبلي مشترك، ولكن أيضا في ظل فشل السياسيين في كسب ثقة الرأي العام نتيجة صراعات النخب الحاكمة، التي أعمتها حرب المواقع ولعبة المصالح عن استشراف الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أنهكت البلاد والعباد، أمام استمرار ارتفاع البطالة في صفوف خريجي الجامعات والشباب وارتفاع معدل الجريمة وتفاقم حجم الديون والارتهان للخارج، فيما يستمر انهيار الدينار وغلاء الاسعار وغياب الاصلاحات وتراجع الخدمات في أغلب القطاعات المرتبطة بصحة المواطن والصناديق الاجتماعية والبيئة والنقل العمومي وغيرها من الخدمات، والتي لا يبدو ان الحكومات المتعاقبة على مدى السنوات الماضية وآخرها ما بقي من حكومة يوسف الشاهد التي لم تكن ومنذ اعلانها حكومة وحدة وطنية، قد أولتها الاهتمام والعناية المطلوبين. كثيرة في الواقع هي الاسباب التي من شأنها أن تدعو الى التشاؤم والتوجس من القادم في هذه المرحلة لا سيما في ظل إصرار أصحاب السلطة في البلاد على تجاهل كل التحذيرات والاصوات التي ما انفكت تدق ناقوس الخطر من تداعيات الحرب العلنية بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية و التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء وتحولت الى حرب استنزاف عبثية يدفع التونسيون ثمنها وهم يرون انعكاسات هذه "الحرب" على مجتمعنا الذي يتجه عن وعي أو عن غير وعي للتطبيع مع الفوضى واللامبالاة والاستخفاف بالمصالح الوطنية بل و المجاهرة بذلك والتنافس على اضعاف الاقتصاد والبلاد وهو ما أدى الى استشراء الفساد وانهيار المؤسسات، وهي بالتأكيد نتيجة حتمية لغياب ثقافة المحاسبة والمساءلة. والامثلة في هذا المجال متعددة وقد لا تكفي هذه المساحة لاستعراضها. الا أنه قد يكون لنا فيما في حادثة القطار الذي تخلى عنه السائق وحادثة اصطدام السفينة "أوليس" والسفينة القبرصية وفيديو جماعة "الفسفس" ما يختزل المشهد التونسي الذي بات أقرب الى سفينة بلا ربان تتلاطمها الامواج... لن نتوقف عند ارتدادات الندوة التي عقدتها هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي والتي ستعود الى المشهد مجددا طالما ظلت الحقائق مغيبة... ولكن قناعتنا أن عيد الجلاء الذي ارتبط بخروج اخر جندي فرنسي من بلادنا لا يمكن أن يكون حدثا عابرا، والاكيد أن احياء عيد الجلاء يبدأ بالعمل على القطع مع عقلية الانهاك والتمرد على ثقافة البحث عن ارضاء صاحب السلطة لتكون السلطة في خدمة الشعب وليس العكس، بمعنى أن تكون عملية التجميل التي تعيش على وقعها مدينة بنزرت مستمرة وأن تتحول الى عدوى في كل البلاد... إذا كانت تونس اليوم تتمتع بسيادتها على اراضيها فان الاكيد أن السيادة الكاملة لن تكتمل في غياب الاكتفاء الغذائي والمائي والعلمي والمعرفي وفي ظل تلاشي ثقافة العمل والاجتهاد وتفقير البلاد من طاقاتها وثرواتها البشرية التي ما انفكت تحزم حقائبها بحثا عن حياة أفضل خارج الحدود... كم نتمنى في عيد الجلاء أن نقول: شيئان في بلدي قد أثلجا صدري، الصدق في القول والوفاء للوطن...