قبل الخوض في قراءة بعض رسائل العملية الإرهابية الجبانة في شارع الحبيب بورقيبة أول أمس التي أراد منفذوها تمريرها، تجدر الإشارة بداية إلى نقاط أمل وضوء برزت من وراء ذلك المشهد الموجع والمؤلم. وتختزل في مؤشرين اثنين أولا فيما بدا من إصرار لدى المواطن التونسي على التمسك بالحياة وبخوفه على وطنه ووعيه الذي يفوق بكثير وعي سياسييه ونخبه في الكثير من الأحيان وعبر مختلف المحطات الفارقة من تاريخ هذا الانتقال الديمقراطي... وثانيا في تلك الصورة المشرفة لتعاطي الأمن التونسي رغم كل ما يثار من انتقادات ولوم من حين لآخر لأدائه، إلا أن تلك الحرفية العالية وتلك الصور التي جابت العالم عن حضور الفرق المختصة والانتشار الأمني المماثل لما نشاهده في أكثر الدول تقدما عندما يضربها الإرهاب الغادر ، لا يمكن إلا أن تبعث على الاعتزاز والاطمئنان بأن أجهزتنا الأمنية على الطريق الصحيح. ودون أن نغفل أيضا مظاهر اللحمة والانسجام بين المواطن والأمنيين عندما يستهدف الوطن واستقرار البلاد وهي ليست بالجديدة بل تكررت في كل مرة تؤخذ فيها تونس غدرا من أعداء الحياة والحرية ومن الحاقدين على تجربة تونسية نصر على اعتبارها استثنائية رغم المرارة والانكسارات أحيانا ورغم التحديات والفاتورة الباهظة والموجعة أحيانا أخرى. أجندة الإرهاب بالعودة إلى القراءة المتأنية في العملية الإرهابية بشارع الحبيب بورقيبة التي رغم الاتفاق على وصفها بالفاشلة وبالمخيبة لآمال مهندسيها قبل منفذيها وبالبدائية في وسائلها ومعداتها المستعملة (طبعا في انتظار ما ستكشفه الأبحاث والتحريات) إلا أنها لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون ارتجالية الإعداد خالية المقاصد والأهداف وهنا بيت القصيد. لا يكمن أن تشتغل أجندة الإرهاب والزر المتحكم في الإذن بالتنفيذ واختيار التوقيت والمكان والسياق بعيدا عن قراءات وتحليلات عارفة بملابسات المشهد في البلاد وفي مقدمته الوضع السياسي لا من حيث تأزمه وصراعات مكوناته الحزبية المؤثرة فحسب لكن أيضا من حيث علاقته بالاستحقاقات السياسية والانتخابية القادمة ولا أحسب الإرهاب وتنظيماته لا يستغلون ولا يوظفون في مثل هذه السياقات الملتبسة فهم مرتزقة قبل كل شيء مرتبطون عضويا ومصلحيا بأجندات دولية وإقليمية لها امتدادها داخليا سواء في شكل ولاءات أو اختراقات. ما أشبه الأمس باليوم ولعل ما يدفع باتجاه إقرار هذا الرابط بين المناخ العام في البلاد والاستحقاقات القادمة وبين العملية الإرهابية في شارع الحبيب بورقيبة هو استحضار سيرورة فترة ما قبل انتخابات 2014 وإسقاطها على واقع الحال لنجد تطابقا بين المسارين على الأقل من حيث التطور النوعي للعمل الإرهابي والسعي من وراء ذلك إلى مزيد تعفين الأجواء وخلط الأوراق واستهداف الدولة وتماسكها.. كيف ذلك؟ إن المتأمل في بداية العمليات الإرهابية في تونس منذ أول مواجهة في 18 ماي 2011 في الروحية ثم إحداث بئر علي بن خليفة في فيفري 2012 يجد أن سنة 2013 كانت المنعرج من حيث تضاعف العمليات الإرهابية وخسائرها سواء في صفوف الجنود في الشعانبي أو الأمنيين وأيضا الاغتيالات السياسية التي طالت الشهيدين البراهمي وبلعيد حيث كانت حادثة اغتيال الأخير في 6 فيفري 2013 بداية المنعرج في سياق ومناخ عام في البلاد متأزم سياسيا وتشريعيا واجتماعيا. وما أشبه اليوم بالأمس، فالكثير من المراقبين والمحللين ما فتئوا في الآونة الأخيرة يشبهون الأزمة الخانقة التي تمر بها تونس اليوم، وقبل سنة من الانتخابات المقبلة، بذلك الوضع المتأزم والملتبس قبل سنة من الانتخابات الفارطة. وتماما كما كانت حادثة اغتيال الشهيد شكري بلعيد بداية المنعرج لأنها كانت نوعية وغير مسبوقة لم يألفها التونسيون ضمن سياق التهديدات الأمنية والإرهابية التي عصفت بالبلاد حينها، قد تكون حادثة تفجير امرأة لنفسها في الشارع الرمز الحبيب بورقيبة بداية منعرج آخر لا سيما وأن رمزية ودلالات هذه الحادثة الإرهابية غير مسبوقة في اختيارها للعنصر النسائي وفي مكان تنفيذها. الإصرار على الخطأ والأكيد ومن خلال رصد ردود الأفعال الأولية لمختلف الفاعلين السياسيين حول العملية الإرهابية في شارع الحبيب بورقيبة، أن التداعيات ستكون عميقة على المشهد السياسي والحزبي خاصة مع إصرار الطبقة السياسية على مواصلة المنطق ذاته في التعاطي مع العمليات الإرهابية والاستمرار في نهج التطاحن والانقسام والاتهامات بالتوظيف السياسي من هذا الجانب ومن ذاك. وفي غياب البحث الجدي عن إمكانيات الوحدة الوطنية الحقيقة غير المغشوشة لمواجهات أجندات الإرهاب والإرباك والإجهاض على ما بقي من أمل في وصول سفينة الانتقال الديمقراطي في تونس إلى بر الآمان، يبقى المشهد التونسي مفتوحا على كل الاحتمالات. قد يعتبر البعض أن لا وجاهة في ما ذهبنا إليه من تحليل أو ربما حملت العملية الإرهابية أكثر مما تحتمل لكن دون شك لا يمكن إسقاط فرضية التربص بالتجربة التونسية ومحاولة إعادتها إلى الوراء أو توظيفها في أجندات ومخططات مستقبلية تستهدف المنطقة برمتها في وقت انحسر فيه هامش تحرك أجندة الإرهاب في الشرق الأوسط بعد قرب الحسم في الملف السوري بعد اجتماع القمة الذي جمع مؤخرا القوى الفاعلة في الملف السوري ممثلة في تركيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والاتفاق على جملة من النقاط لصالح بداية الاستقرار في سوريا. ومع بداية عودة الإرهابيين من بؤر التوتر قد يكون الاستثمار في مناخ عدم الاستقرار الداخلي في تونس بوابة لعديد الأجندات الممكنة داخليا وإقليميا.