ينطلق العمل المسرحي الأخير «غيبوبة» لجمعية الحبيب الحداد المسرحية بباجة بحظوظ وافرة لتسجيل صحوة جديدة في المسار التاريخي للجمعية. المسار الذي أثثته عدة أعمال نوعيّة جادة ورافقته تتويجات على جميع الأصعدة من خلال مواكبة جل مهرجانات مسرح الهواية بالبلاد التونسية منذ ستينات القرن الماضي. وفي التسعينات دخلت في دائرة البحث عن الذّات من خلال بعض المحاولات في التجديد، إلاّ أنها ورغم تواجد أقلام متمرّسة كالأساتذة عبد العزيز الباجي عكاز وخميس العجرودي ومحي الدين السياري... فإنها لم تتوفق إلى إيجاد التّعبيرة المثلى في نهج التجديد. وهي اليوم تعود بعدد من الطاقات الشابّة التي قد تمثل صحوتها المنتظرة من خلال عملها الفني الجديد «غيبوبة» الذي كتبه وأخرجه الأستاذ رشاد الشعيبي وساهم في لعب أدواره كل من الأستاذين عبد الباقي الكشرودي وكريم الجندوبي ومجموعة من الشبان المبدعين،الذين انطلقوا من نوادي المسرح المدرسي كإسلام المديني ومهدي العلوشي ورفيق المحمدي ومديحة الحسني ونورس العباسي التي حازت على جائزة أحسن ممثلة في المهرجان الوطني لمسرح الهواة 2018 المقام بقصور الساف كما فازت المسرحية بجائزة أحسن عمل متكامل بمهرجان عامر التونسي بصفاقس وأحسن إخراج في مهرجان أيام المسرح بمجاز الباب في دورته الأخيرة وهي مدرجة على هامش أيام قرطاج المسرحية القادمة وبالمسابقة الرسمية لمهرجان قربة لمسرح الهواة ديسمبر 2018 وتشارك في اختتام أيام جامعة مسرح الهواة بطبرقة يوم 24 ديسمبر. مسرحية «غيبوبة» هي عبارة عن حالة من الذهول أصابت الشارع العام التونسي جسّدها المخرج رشاد الشعيبي في شكل رقصة باليه ممتزجة بمشاهد تمثيلية تصور بعض المواقف المتأسّية داخل فضاءات الوطن من خلال دوائر ضوئية مركزة من وضع الشاب أحمد الزديني ومقاطع موسيقية موجّهة ومؤثّرات صوتية متنوعة وبألوان يغلب عليها سواد الكُسى والبياض الناصع للوجوه، توظيفات مالت بالعرض إلى وجهة فنيّة مريحة ورفاه في الفرجة محمود رغم ما ساد بعض فتراتها من قتامة في المشهد وجرأة في طرح الأسئلة الحائرة حول مصير الوطن بما يعج به من متناقضات ومستجدّات وعنف منظم وتطرف كاسح وتصارع فاضح بين قوى الموت وقوى الحياة وبين دعاة الاغتراب ودعاة السلام والتجذير. ظواهر وتساؤلات وتوصيفات نجح المخرج في الاشتغال عليها فنيا موظفا قدرات الممثلين الشبان على رسم مشاهد تعبيرية ركحيّة متسقة فيما بينها ومنسجمة تمام الانسجام مع الكلمة المحكّمة والموسيقى المقيّسة سواء بتنوّعها أو بتسارع إيقاعها وانخفاضه طوال ردهات العرض. هذا العرض الذي يطرح بشكل فنّي مميز فكرة أساسية واضحة حول وضع تونس اليوم في خضمّ تسارع وتيرة التحوّلات الجيوسياسية وما يرافقها من مستحدثات في المشهد الاجتماعي والاقتصادي ويعبّر عن نفس فكرته بما يراكمه النصّ من تساؤلات بعضها ضمني وبعضها صريح كالحرقة والجهاد الإرهاب الاعتداءات المنظمة على الأمنيين والعسكريين مع توظيف رامز لصوت الشّاعر الصغير أولاد أحمد الذي يجسد صوت محبة تونس والصمود من أجل حريتها وعلو رايتها.. رحلة غيبوبة هي غيبوبة يتجسد فيها المشهد حلما وحقيقة بوجوه فنانة طامحة تسكنها العبارة وتدفعها التّعبيرة وتتلبس بها محبة الوطن.