* واقع عربي مر.. معقد ومركب تناوله المسعودي بوضوح وبموقف *نص مسرحي جيّد وجدير بان يقرا ولا يليق به إلا اخراج باذخ تونس – الصباح وقّع الدكتور عبد الحليم المسعودي ظهر الخميس 13 ديسمبر الجاري في بيت الرواية بمدينة الثقافة عمله الجديد وهو مسرحية "الروهة" الصادرة مؤخرا عن دار "مسكلياني للنشر والتوزيع"، في جلسة لطيفة ضمت عددا من أصدقاء الكاتب والناشر ورواد "بيت الرواية" والإعلاميين والمسرحين والنقاد. وقد رحب الروائي كمال الرياحي في بداية الجلسة بكل ما جاور الرواية من أجناس أدبية وبكل فن قريب من فن الرواية والقص واعتبر أن صدور عمل مسرحي مطبوع ومنشور في كتاب حدث ثقافي يستحق الاحتفاء به وبصاحبه ضمن برنامج راعي النجوم لتوقيعات الكتاب وحديثهم عن تجاربهم الإبداعية وقال: "نحن نحتاج إلى نشر المسرحيات والسيناريوهات ونشجع المقبلين عليها." وقد قدّم الدكتور والروائي شكري مبخوت "الروهة" للحضور ملاحظا أهمية هذا الإصدار باعتبار ان المسرح أصبح الأفقر بين الأجناس الأدبية من ناحية الإنتاج واهتمام المبدعين بصفة عامة وقد غطت عليه الرواية في حين انه لا يمكن للثقافة أن تطير بجناح واحد ولا بد لها من الاثنين معا. ولاحظ أن صدور مسرحية "الروهة" في كتاب يفيد أمورا عدة من بينها ان الناشر التونسي أصبح يقبل على نشر ما يقال انه لا بياع ولا يقرأ وهذه شجاعة ولفتة مهمة. وقال: "ان عبد الحليم المسعودي حين باغتنا بهذه المسرحية إنما يعود بنا إلى تقليد قديم كان منتشرا في تونس حيث سبقه إليه كل من عز الدين المدني وسمير العيادي ومصطفى الفارسي وغيرهم.. وقد غامر بكتابتها باللغة العربية الفصحى في حين أن الاتجاه العام لكتابة المسرح حاليا هو الكتابة بالدارجة حتى أننا أصبحنا اليوم نشهد ترجمة نصوص من العربية إلى الدارجة واختار الكتابة الفردية في وقت يتجه فيه المسرح التونسي إلى التأليف الجماعي ." عمق روحي ومستوى فلسفي وتأملي وأكد شكري المبخوت خلال تقديمه "للروهة" على أنها تقرأ من مستويات مختلفة من ناحية أنها خرافة ومن ناحية نحتها لشخصيات ترتبط وثيقا بوضعنا الراهن على كل المستويات وقال: "المسرحية سياسية بامتياز تتناول البربرية الجديدة التي نعيشها من خلال ما تشهده العراق وسوريا وتونس وكذلك التاريخ الموجع والمفكك للعرب ومن خلال ما نشاهده من تقتيل وأشلاء ودماء.. واقع مر معقد ومركب تناوله المسعودي بوضوح في المسرحية وقدم منه موقفا واضحا. وقد وجد المبخوت في المسرحية عمقا روحيا رأى انه مستمد من بلاد الرافدين (الحديث عن الأديان والنصوص المقدسة غير النصوص التوحيدية التي نهل منها المسعودي بذكاء وهو ما أعطاه شرعية الكتابة باللغة العربية الفصحى). كما أثنى المبخوت أولا على بناء المسعودي لعالم متخيل كله ظلام وأشباح وموتى يتكلمون ويتحدثون عن هذا الذي دفعهم إلى الجحيم مما قرب المسرحية من الأسطورة. ثانيا على المستوى الفلسفي والتأملي وخاصة في تقديم الشخصيات وفي الأسئلة المرعبة المرتبطة بالوجود والعدم (مكان مظلم بلا قرار في الصحراء والتقابل بين المكان وما يوحي به الزمان العتيق وبين الموضوعات الراهنة حتى أحسسنا وكأننا لم نخرج أبدا من تلك الكهوف...) وقال: "يدعونا عبد الحليم المسعودي في عمله المسرحي هذا إلى التأمل في إنسانيتنا المعذبة وبربريتنا ويسألنا إن كنا تقدمنا نحو الإنسانية الحق وبحق؟ وعن الحرب والموت والسلطة والعدم والوجود..؟ وأضاف المبخوت: "وقد كشف لنا كقراء عن سعة معرفة وإطلاع في مستويات مختلفة كمعرفته بالعراق رغم انه لم يزرها يوما بل من خلال قراءاته ومتابعاته فقط ومن خلال الحبكة وتداخل عدة حكايات وتقاطعها مما منح النص زخما في الأحداث ومنحه العمق الفكري الذي يفيد بان السقوط الذي يعرفه العالم العربي هو سقوط كلي يجر كله للإحباط. "الروهة": الروح الشريرة أو الاضطراب والفوضى والرعب الماورائي "الروهة" - وتعني الروح الشريرة حسب ما فسره المبخوت – تملأ النص من بدايته إلى نهايته –( وقيل خلال الجلسة إنها "الاضطراب والفوضى والرعب الماورائي " )- وهو نص "مثقّف" بفتح القاف و"مثقّف" بكسر القاف مثقف بمراجعه وبإحالاته وبالمعرفة بكل ما يستدعيه النص من تداخل للتاريخ بالراهن العربي المفعم بالقتل والأشلاء والدماء والآلام الموجعة.. نص لا يخلو من العمق الروحي والأسطوري ومن التفكير في السبل التي تؤدي إلى النور الذي تبحث عنه الشخصيات. وهو نص مثقّف (بكسر القاف) لقارئه ينقله إلى عوالم عجيبة تحت الأرض وفيها دعوة صريحة للتفكير في الأنوار والتنوير ومثل هذه الدعوة حسب رأي الدكتور شكري المبخوت لا يمكن أن تكتب إلا باللغة العربية الفصحى. علما بان هذه الفصحى تداخلت فيها اللهجات العربية بين عراقية وسورية.. للتعبير عن الواقع العربي المعقد والمركب وأنهى المبخوت حديثه عن نص " الروهة" قائلا: "انه جيّد وجدير بان يقرأ ولا يليق به إلا إخراج باذخ ." وفي كلمته عن دوافع كتابته ل"الروهة" ذكر المسعودي بان العرب عاشوا محارق كبرى وخطيرة غفل عنها الأدب العربي ولم يتناولها ولم يتكلم عنها ومن بين هذه المحارق وجود التيار الداعشي الذي ارتكب اكبر المحارق في حق العرب وتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم. ولم ينف وجود "المسألة الذاتية" حيث ذكر انه ابن منطقة الجريصة (ولد سنة 1965) حيث يوجد داموس منجم الحديد الذي ترك تساؤلات كبيرة في ذهنه منذ رآه وهو صغير السن.. ويوجد في العراق. (الموصل مثلا).. مثل هذه الهوة المظلمة والسحيقة - وهي كثيرة ماديا ومعنويا في بلاد العرب - وضع المسعودي 6 شخصيات تتجابه فيها وتبحث عن الضوء. لا أفضل مخرجا على مخرج وستأخذ المسرحية مسارها وقد تبين من خلال مداخلات الحضور ومن بينهم من اطلع على الكتاب وهو مخطوط ان عبد الحليم المسعودي صدم وتأثر كثيرا بعملية تفجير التماثيل الآشورية وفي ما آلت إليه أوضاع العرب ونزولهم الى حضيض الحضيض بصفة عامة ونصه المسرحي هذا يختزل تلك الصدمة وهنالك من رأى أن النص عنيف في صراحته وفي طريقة كشفه للمستور وان الأصل في حياة العرب هي الظلمة التي يخرج منها النور الذي يخافه البعض. وإجابة عن سؤال "الصباح" عن سبب نشره لمسرحيته في كتاب في حين انه كان بإمكانه تقديمها للمسرح الوطني أو لأي مخرج مسرحي تونسي أو عربي أو أي مركز من مراكز الفنون الدرامية والركحية يخرجها ويقدمها على الركح؟ فقال ان الاختيار كان عفويا وبسيطا وانه يحب ويؤمن بقراءة المسرح ويجد فيها متعة وان مسرحيته ستأخذ مسارها وانه لا يفضل مخرجا على مخرج بل يعتبرهم جيدون وقادرون على الإضافة ولا يمكن ان يختار بينهم..وفي نهاية الجلسة صرح عبد الحليم بأنه بصدد وضع اللمسات الأخيرة على عمل روائي سينشره قريبا.