لطالما أرعبت تصريحات قيادات اتحاد الشغل حول تفكير المنظمة الشغيلة في دخول غمار الانتخابات المقبلة عن طريق قائمات معينة ومرشحين لهم وزنهم عديد الأحزاب لما للمنظمة من وزن في البلاد إن لم نقل أقرب منظمة لعموم الناس بما في ذلك المتحزبين ما عدا طبعا الذين يمقتون العمل النقابي أو الذين تجرؤوا على رمي المنظمة بالقمامة وجماعة ما يسمى بلجان حماية الثورة.. ومما لا يرقى إليه أدنى شك هو أن كل من يحاول حصر دور اتحاد الشغل في المجال الاجتماعي المطلبي مخطئ لأن الاتحاد، منذ نشأته في قلب السياسة، وأثبت ذلك في الحركة الوطنية وقدم للوطن شهداء.. تماما مثلما قدم رجالات أفذاذا خدموا وأسسوا الدولة الحديثة بعد الاستقلال،.. وبعد أن أطر ورافق الثورة ثم حماها وساهم في الانتقال الديمقراطي كما قاد الحوار الوطني لينقذ البلاد من حافة الهاوية واصل دوره كقوة توازن، وكان متواجدا في كل الأزمات بل قدم حلول وقام بتهدئة الأوضاع في أكثر من موقع.. وفي عديد المناسبات، بل أخرج الحكومات المتعاقبة من عدة مآزق، من أجل البلاد خاصة أن الاتحاد منحاز دوما للشعب.. ومن الطبيعي أن تخشى بعض الأحزاب مغامرة الاتحاد في الانتخابات، ففيما تشكل أحزاب جديدة وجيهات، تتقرب من الاتحاد حتى تحظى بدعمه ومساندته وتأييده، أصبحت بعض القيادات تلوح بدخول الانتخابات بعد أن مل الشعب الوعود وقاطع صناديق الاقتراع لأنه لم تعد له ثقة في الساسة. كما أن هذه الخشية لها ما يبررها، فالمواطن خزان انتخابي للأحزاب، التي تغدق بالوعود خلال حملاتها ثم لا شيء يتحقق، حتى وإن حققت نجاحا نسبيا في الانتخابات.. لكن الاتحاد يتكلم باسم المفقرين والمهمشين والطبقة الشغيلة والعاملين بالفكر والساعد، وبالتالي قاعدته عريضة ومكانته كبيرة عند التونسيين وقد يسحب البساط من تحت أقدام الجميع، لذلك رأينا نوابا حتى من أحزاب كانت تنتقد اتحاد الشغل (قبل أن تتفتت) تواكب خطابا لنورالدين الطبوبي أمام البرلمان.. ورأينا أخرى توافدت على بطحاء محمد علي في اطار البحث عن مخرجات للأزمة السياسية التي ألمت بالبلاد.. ورأينا أيضا حركة النهضة تتحدث منذ فترة عن دور اتحاد الشغل، وكذلك عن ضرورة التفاوض مع الحكومة لإيجاد حلول، حيث هناك احساس بوجود مهادنة من ناحية النهضة باعتبار أن الاتحاد يحمل عديد النواب كسلطة تشريعية مسؤولية ما يحدث، والحركة الاسلامية كتبت دستورا، جعلت فيه السلطة التشريعية المفتاح، كما أنها الكتلة الأولى دوما في مجلس نواب الشعب، والتي عادة ما تقلب الموازين.. ومصادقته على عديد مشاريع القوانين التي لا تخدم المفقدين والمهمشين.. وهي أيضا مسؤولة في جزء هام عما بلغته البلاد.. ولان المعروف عن اتحاد الشغل أنه خليط عجيب من التيارات السياسية لكن القاسم المشترك هو انحياز هؤلاء النقابيين (حتى وإن كانوا متحزبين) للشعب والعمل الاجتماعي وبالتالي قد يكون الاتحاد فهم أن كل التعطيلات والمشاكل تبدأ من السلطة التشريعية تحت قبة البرلمان، وأن كتلا بعينها مهيمنة على المشهد ودفعت بالبلاد نحو مزيد التداين الخارجي وارتهان قرارها لدى الجهات المانحة.. كما أن هناك «لوبيات» تتحكم في عدة مفاصل، وأن رجال الاعمال ورواد الرأسمالية المتوحشة لهم تمثيلية كبيرة في المجلس.. وما لا يختلف فيه عاقلان هو أن المنظمة الشغيلة تدرك جيدا أن مطحنة الحكم قد تؤدي إلى تفتيتها وأيضا إلى تفكيكها بسبب عديد الاكراهات السياسية كلما كانت في الحكم، لذلك قد يكون الحديث ترشيح بعض الأسماء لمناصب كبرى في الانتخابات القادمة، مناورة من المنظمة الشغيلة للفت الانتباه وكذلك لتحذير الزعامات مما آلت اليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة أساسا بالأزمة السياسية الخانقة لكن في كل الأحوال يمكن للمنظمة الشغيلة ترشيح قائمات معينة للانتخابات التشريعية والحصول على عدد هام من المقاعد حتى تكون للبرلمان كتلة معارضة، معارضة بناءة، إن لم نقل معارضة ذات بعد اجتماعي اقتصادي دون أن يكون لها لون سياسي، فلمنظمة الأعراف من يمثلها في المجلس، وكذلك هناك منظمات أخرى ممثلة بشكل أو بآخر من أحزاب قوية على غرار اتحاد الفلاحين، لكن الاتحاد الذي ظل دوما صمام الأمان وملاذا لعموم الشعب التونسي لا يوجد من يمثله، وبالتالي قد يكون ذلك تهديدا جديا لعديد الأحزاب، ولكل ذلك تعمل بعض هذه الأحزاب على حصر دور الاتحاد في مفاوضات الزيادة في الأجور والمطالب الاجتماعية والنقابية على غرار حركة النهضة ومشتقاتها على أساس أن الاتحاد يميل لليسار.. وأنه مسؤول عن جزء كبير من الأزمة الحالية، فحتى الاضرابات غير المنظمة والتي لم يدع إليها هناك من يحسبها عليه، بما في ذلك اضرابات تعطيل الانتاج في محاولة للهرسلة والحط من عزائمه. ولكن الاتحاد الذي أجرى منذ الثورة ثلاثة مؤتمرات ديمقراطية (والحال أن هناك أحزابا لم تعقد ولو مجرد مؤتمر واحد) ولديه هياكل ومؤسسات وخبراء في شتى المجالات الاجتماعية والاقتصادية ومدارس للتكوين والتثقيف النقابي، وهيكلته منظمة ومنضبطة بمقدوره خوض غمار أي انتخابات سلاحه في ذلك العمال بالفكر والساعد والمفقرين والمهمشين الذين يمثلون الأغلبية الساحقة.. لأنه لا حشاد ولا محمد علي الحامي ولا الحبيب عاشور ولا غيرهم من النقابيين الأفذاذ كان يمينيا أو يساريا، بل كانوا وطنيين يحملون هموم شعبهم.