* نحو التخلي عن آلية التعديل الآلي وتعويضها بآلية "التوقي" مع نهاية أكتوبر من العام الماضي أي قبل ثلاثة أشهر من الآن، شهدت أسعار المحروقات انخفاضا كبيرا وملحوظا لم تشهده منذ عدة أشهر ونزل من أكثر من 83 دولارا للبرميل، في سبتمبر إلى أقل من 53 دولارا في ديسمبر أي أكثر من 14 بالمائة.. ورغم أن الحكومة تعتمد منذ أكثر من سنتين على آلية التعديل الآلي للأسعار محليا صعودا أو نزولا إلا أنها مع ذلك لم تبادر إلى خفض الأسعار اعتمادا على نفس الآلية رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على آخر تعديل ثلاثي للأسعار في سبتمبر الماضي ورغم وعدها بالقيام بذلك. فهل تخلت الحكومة عن وعدها أم تخلت عن اعتماد الآلية التعديل الآلي لتحل محلها آلية جديدة؟ أم إن في الأمر علاقة بانزلاق الدينار التونسي أو مجرد انتظار لعودة نسق الارتفاعات من جديد لتبرير عدم التخفيض فيها محليا؟ يبدو أن الانخفاض المفاجئ لأسعار البترول في العالم إلى مستوى لم تتوقعه الحكومة جعلها تعزف عن إقرار زيادة جديدة كانت مبرمجة قبل نهاية 2018 واكتفت بالإبقاء على الأسعار كما هي. لكن اللافت للنظر أن وزير الصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة سليم الفرياني ناقض نفسه حين سئل عن إمكانية إقرار انخفاض في أسعار وقود السيارات بالنظر إلى انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية، حيث أقر في تصريح أول في إحدى الإذاعات (الخميس الماضي) بأن الأمر ممكن، قبل أن يعود فجأة في تصريح ثان وعبر نفس الإذاعة (أول أمس) ليقول إن المطالبة بالتخفيض في سعر البنزين أمر فيه مغالطة وأنه كان من المفروض الترفيع في الأسعار لكن الحكومة رأفت بحال التونسيين!!.. وبرر الفرياني عدم وجود سبب يدعو للتخفيض في أسعار المحروقات، بتواصل انزلاق قيمة الدينار التونسي مقارنة بالعملات الرئيسية وخاصة الدولار إذا ما تم احتساب سعر برميل البترول بالدينار التونسي، موضحا أن سعر البرميل في الفترة الماضية (يقصد قبل 4 أشهر) والتي سجلت فيها الأسعار العالمية انخفاضا كان في حدود 180 دينارا. وقال: "كي طلع سومو حقنا زدنا في الأسعار لكن ومراعاة لظروف التونسيين لم يتم ذلك". في الواقع، ليست هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها الوزير عن إمكانية التخفيض في أسعار المحروقات. ففي تصريح إعلامي له يوم 16 نوفمبر 2018، لمّح إلى أن إمكانية التخفيض في أسعار المحروقات واردة إذا تواصل انخفاض الأسعار على المستوى العالمي، لكن وزير المالية رضا شلغوم سرعان ما صحح الأمر واستبعد إمكانية التخفيض حين قال إن "أسعار النفط العالمية لم تصل إلى الحد الذي يستدعي تخفيض السعر في تونس تطبيقا لآلية التعديل الآلي"، علما ان معدل أسعار نوفمبر تراوحت بين 60 و65 دولارا للبرميل. فهل تدارك وزير الصناعة أمره وندم على تصريحه بعد أن تفطن إلى أن الدينار التونسي لم يعد في نفس قيمته التي كان عليها في شهر نوفمبر مثلا؟ أم أن وزير المالية سارع إلى تذكيره بالواقع الأليم الذي يمر به الدينار؟.. كان يمكن ان يكون الوزير أكثر وضوحا لو استشهد مثلا بما حصل في قانون المالية لسنة 2019 حين تم التخفيض في المعاليم والأداءات الموظفة على السيارات 4 خيول وسارعت الحكومة إلى تسويق مغالطات مفادها أن أسعار هذا الصنف من السيارات سيشهد انخفاضا بما يتراوح بين 3 و5 ألاف دينار.. لكن سرعان ما تبخر الحلم حين تأكد أن أسعار السيارات "الشعبية" لن تنخفض بل ستستقر خلال 2019 وستظل هي نفسها كما كانت سنة 2018، والسبب هو هبوط قيمة الدينار التونسي، أي ان التخفيضات الديوانية على تلك النوعية من السيارات امتصها ارتفاع قيمة الدولار أمام الدينار التونسي على اعتبار أن السيارات يتم استيرادها بالعملة الصعبة.. وقياسا على ذلك كان يمكن تبرير عدم التخفيض في أسعار المحروقات بتواصل انهيار الدينار التونسي أمام العملات الرئيسية. فالدينار خسر طيلة سنة 2018 مقابل الدولار 21 % من قيمته مقارنة بسنة 2017.. ويتجاوز حاليا سعر الدولار الأمريكي 2.98 دينار تونسي.. وبالعودة إلى جوان 2018 مثلا، كان سعر الدينار أمام الدولار يحوم حول معدل 2.580 دينار حينها كان معدل سعر خام برنت في حدود 73 دولارا.. ما يعني أن سعر البرميل يعادل 188 دينارا. وفي سبتمبر كان معدل سعر البرميل يقدر ب78 دولارا وسعر صرف الدولار أمام الدينار بقيمة 2.8 دينار ما يعادل 218 دينارا للبرميل، لكن أسعار النفط شهدت بداية من أكتوبر وعلى امتداد شهري نوفمبر وديسمبر انخفاضا متواصلا وصل إلى معدل 55 دولارا في نهاية نوفمبر وخلال ديسمبر، لكن الدينار واصل انزلاقه ليسجل في نفس الفترة معدل صرف ب2.9 دينارا أمام الدولار، أي حسابيا قرابة 160 دينارا سعر البرميل.. لكن موجة الانخفاض لم تدم طويلا إذ عاود نسق الصعود مع بداية سنة 2019 في معدل يقترب من 60 دولارا للبرميل ما يعادل قرابة 180 دينارا تونسيا.. في المحصلة، لم تستفد تونس من انخفاض أسعار المحروقات باعتبار تواصل انزلاق الدينار أمام العملات الرئيسية، علما أن تونس تأتي في المرتبة 28 عالميا من حيث أسعار البنزين (0.68 دولار)، وبالتالي فإن المعضلة الحقيقية ليست في عدم خفض الأسعار بل في التحكم في قيمة الدينار التونسي واستقراره، لأن ما يجري حاليا هو تعويم للدينار الذي لو يواصل انحداره على هذا النسق دون تدخل من الحكومة ولا من البنك المركزي، فسترتفع الأسعار لا محالة وستزيد نسبة التضخم ومعها تدهور القدرة الشرائية.. انتعاش جديد لأسعار النفط وبالعودة إلى أسعار النفط عالميا، فقد شهدت ارتفاعا بمتوسط 9% لتسجل مستوى أعلى جديد خلال أربعة أسابيع وسط حالة التفاؤل حيال اقتراب الولاياتالمتحدة والصين الإعلان عن اتفاق تجاري جديد وانخفاض إنتاج أوبك لأدنى مستوى فى عامين بقيادة المملكة العربية السعودية. وارتفع خام برنت إلى مستوى 62.05 دولارا للبرميل. فهل تبخر حلم التخفيض في أسعار وقود السيارات، أم أن الأمل لا يزال قائما على الأقل في الإبقاء على نفس الأسعار الحالية؟ لقد أقرت الحكومة 4 زيادات متتالية في أسعار المحروقات خلال كامل 2018 آخرها كانت في سبتمبر 2018 حتى قارب سعر لتر البنزين الرفيع الدينارين (1985 مليم). وكان التبرير في كل مرة هو ملاءمة الأسعار المحلية مع السوق العالمية. وكانت آخر مراجعة لأسعار وقود السيارات نحو التخفيض في أول جانفي 2016 في عهد حكومة الحبيب الصيد حين تم التخفيض ب20 مليما للتر الواحد للبنزين و50 مليما لمادة الغازوال، وهو ما اعتبره مراقبون مغالطة من طرف الحكومة بالنظر إلى معدّل الزيادات التي دأبت على إقرارها بصفة دورية منذ 2008 بمعدّل مرّتين في السنة وبمعدل 100 مليم في كل زيادة، وأيضا بالنظر إلى التراجع الكبير لسعر النفط في تلك الفترة والذي فاق 70 دولارا للبرميل ليناهز 36 دولارا. وهو أدنى سعر للبرميل منذ سنوات. فرضية التخفيض غير ممكنة تبدو فكرة التخفيض ممكنة وواقعية بالنظر إلى تواتر نسبة انخفاض سعر برميل النفط عالميا، فنيا المراجعة نحو الانخفاض ليست مستحيلة لكنها صعبة بالنظر إلى مؤشرات أخرى قد تعيق اللجوء إلى عملية تخفيض حقيقية وهو مؤشر سعر صرف الدينار أمام الدولار الذي يناهز حاليا 2.98 دينار، علما أنه كان قبل سنتين أي خلال سنتي 2016 و2017، يحوم حول معدل دينارين للدولار الواحد. ويعتبر عامل الصرف العبء الأكبر في تكلفة المحروقات بعد تدني سعر الدينار إلى أدنى مستوياته إزاء الدولار. وحسب تقديرات وزارة المالية فإن كل زيادة أو انخفاض ب10 مليمات في معدل سعر صرف الدولار تترتب عنه كلفة إضافية أو نقصان على مستوى الميزانية بقيمة 30 مليون دينار. لكن المؤكد أن الحكومة قررت تجميد أسعار المحروقات مؤقتا إلى حين عودة نسق ارتفاعها في الأسواق العالمية ومن غير المستبعد أن تعمد قريبا إلى مفاجأة التونسيين بزيادة جديدة ستكون حتما قاسية على جلهم وتبعاتها أكثر من وخيمة.. علما أن قانون المالية لسنة 2019 يفترض زيادات مبرمجة مسبقا في أسعار المحروقات وأيضا في أسعار الكهرباء.. نحو التخلي عن آلية التعديل الآلي لا بد من التنبه إلى عنصر آخر لا يجب التغافل عنه في علاقة بسياسة الحكومة في مجال تعديل أسعار المحروقات، فمنذ بداية العمل بآلية التعديل الآلي في صائفة 2016 عادة ما يتم الترفيع آليا في الأسعار في كل ثلاثية. غير أن الملفت للانتباه أن الحكومة تنوى التخلي عن هذه الآلية التي أوصى بالعمل بها صندوق النقد الدولي، مقابل إرساء آلية جديدة مستحدثة أطلق عليها وزير الإصلاحات الكبرى السيد فرحات الراجحي عبارة "آلية التوقي". فقد أعلن الراجحي عن العمل بهذا الآلية بداية من جانفي 2019 حين سئل في حوار صحفي نشر في جريدة "الصباح" عن نية الحكومة رفع الدعم تدريجيا في المحروقات، حين قال: "فيما يخص دعم المحروقات الذي أصبح يعتمد على آلية التعديل الأوتوماتيكي، فقد أوجدنا مشروعا جديدا سيتم تطبيقه مع مطلع سنة 2019". وأوضح أن الآلية الجديدة تهدف إلى"التوقي من تقلبات سعر برميل النفط العالمي بعد أن اشتغلت عليه طيلة السنة لجنة متابعة آثار ومخاطر ارتفاع سعر البرميل على الميزانية وتوصلت إلى الالتجاء إلى تقنيات التوقي المعمول بها في عديد البلدان وفي الأسواق المالية وسيضع الميزانية في معزل عن كل التغيرات التي تشهدها الأسعار العالمية ونحميها قدر الإمكان عن طريق الحصول على تأمينات.. تكون إما بإمضاء عقود آجلة أو بالحصول على تمويلات لتامين الميزانية من التقلبات في سعر برميل النفط"..