في مقال بجريدة الصّباح ليوم 14جوان الجاري، كتبه كمال بن يونس تحت عنوان"الهستيريا الدّينية؟", جاء ما يلي: ".. لا بد من الاقرار أنّ البعض من مجتمعاتنا العربية والاسلامية تشهد فعلا منذ سنوات نوعا من ال"هيستيريا الدينية".. والسُّلوكيات "الايمانية" الغريبة عن تراثنا وثقافتنا المعتدلة.. هيستيريا يمكن تفسيرها بعوامل عديدة.. من بينها نقص فضاءات الحوار العقلاني والعلمي الهادئ.. وانتشار الدّعاية السلفية والوهابية وقنوات نشر التطرف في صفوف الشباب.. على حساب منابر الترويج للاسلام المعتدل.. ووسائل الاعلام المعتدلة مثل اذاعة الزيتونة في تونس مثلا..
التي تقوم بعض برامجها بمجهود توعوي هادئ يذكر فيشكر.. لكن قد يكون من المفيد تطويرها ودعمها.. على اكثر من واجهة.. حماية لشبابنا واطفالنا من كل سيناريوهات التطرف والدمغجة.. " يُثير الكاتب في هذا المقال مشكلة هي من أهمّ المشاكل التي يتخبّط فيها عالمُنا العربي والإسلامي. وتتلخّص هذه المشكلة في الغزو الثقافي الآتي عبر القنوات الفضائيّة والمواقع الإلكترونيّة, وخصوصا تلك التي ترمي إلى نشر فكر ديني ذا منزع سلفي وحنبلي مُتشدّد. والهدف من هذه الورقة, هو محاولة إلقاء الضّوء على أهمّ جوانب هذا الموضوع الشائك, وسأبدأ بإلقاء نظرة سريعة إلى الوراء, أي إلى ما قبل ظهور التكنولوجيات الإعلامية الحديثة. عصر ماقبل الثورة الإعلامية عمل بناة الدّولة في تُونس الحديثة على أن تكون الثقافة موحّدة وأن تُحاط بسياج يقيها من كل التّداخلات وهو ما سمّاه البشير بن سلامة بالحدود الثقافية التي ترسم خارطة الثقافة في بلادنا.هذه الخارطة تحدد الساحة الثقافية من حيث إمتدادها أفقيّا وبالتالي تمايزها عما يُحيطها من ثقافات أخرى ثم من حيث إمتدادها عموديا حيث تنزل لقاع التاريخ وتتجاوز الفتح العربي لتصل إلى البربر والحضارات الوافدة عليهم. وقد عملت النّخبة السّياسية على جعل الدّولة بوتقة الحداثة القومية على حدّ تعبير هشام جعيط الّتي تحتاج إلى قيم العقلنة والعلمنة والمركزة وقد إستخدمت في ذلك كل أجهزة "صنع الرّأي" المتاحة في ذلك الوقت من إذاعة وكتب وأهمّها المدرسة. هذا التّحكم في ساحتنا الثقافية لم يعد مُمكنا الآن ووجب علينا مواجهة الواقع الجديد. عصر الفضائيات و الإنترنات ماإنفكّ عدد الفضائيات العربية يتضاعف في السنوات الأخيرة حتى وصل الآن إلى أكثر من 500 قناة من بينها عشرات القنوات الدينية التي تعمل على نشر الفكر المتطرف ودفع المجتمعات العربية إلى الإرتداد عن الحداثة. هذه الفضائيات تخاطب الملايين والملايين,بمن فيهم الأمّيُّون الذين يتجاوز تعدادهم في العالم العربي المائة مليون. وأخصُّ بالذكر هنا قناة الجزيرة التي وصفها جورج طرابيشي» بأنّها أوسع القنوات العربية نفوذا وتأثيرا بإعتمادها إستراتيجية ذكية تقوم على إحتضان التعددية السياسية, التي يفتقدها أشد الإفتقاد العالم العربي, لتمرير واحدية دينية نكوصية. و الحاضنة المادية لهذه الفضائيات هي الدولارات النفطية التي وُظّفت بمليارات ومليارات في خدمة إستراتيجية الإنتقاض على عصر النهضة وموروثه الثقافي، وتحويل قيادة الفكر العربي المعاصر من الأفغاني والكواكبي وقاسم أمين والطّاهر الحدّاد وفرح أنطون وطه حسين وسائر النّهضويين إلى إبن تيميّة وتلامذته من النيو-وهابيين وإلى سائر مجددي السلفية المتزمتة في القرن العشرين بدءا بسيّد قطب وإنتهاء بيوسف القرضاوي« . فماذا فعلنا نحن في تونس لمواجهة هذه الهجمة الشرسة الآتية من السّماء؟ هل تكفي إذاعة الزيتونة لدحض هذا الكم الهائل من الفكر المتشدد والمنهمر علينا طوال الليل والنهار؟ هل تكفي إذاعة مسموعة وحيدة لخلق أيّ توازن أمام عشرات القنوات المرئيّة؟ لقد إكتسحت هذه الفضائيات فكر المواطن العربي في كل مكان وخصوصا في المشرق. ففي مصر مثلا ، أكبر البلدان العربية من حيث عدد السّكان تراجع التّسامح الديني والفكر الإصلاحي الّذي كان قد أسّس له رواد النّهضة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين و إنتشر التّطرف وإستفحل الهَوَسُ الدّيني .وقد كتب المصري سيّد القمني في هذا الصدد تحت عنوان "ماذا جرى لمصر؟": »تمكّّن البترو دولار من غزو مصر الإسلامية بإسلام صحراوي وهابي جاف وقاس، وهو مالا تعرفه بلاد الخصب والوفرة في الوديان الخضراء، تمّ غزو البداوة لبلاد الخصب بمنهج بدوي لا يسمح بأيّ سؤال أو رأي ممكن... «.لا أظنّ أنّنا في تونس معرّضون لمثل هذا القدر من الإكتساح لأنّ مجتمعنا هو نسبيّا أكثر عقلانية من المجتمع المصري ولكن مع ذلك يجب أن نأخذ الأمور بجدّية ونحصّن مجتمعنا ضد هذا المرض الخطير. ماذا يمكننا أن نفعل؟ لقد تُركت هذه الفضائيات لوحدها في الميدان تصول وتجول كما تشاء ولا تُزاحمها إلاّ قنوات من نوع آخر تنشر المُيوعة والإنحلال الأخلاقي والمُلاحظ أنّ حتّى هذا النّوع من الفضائيات مُموّل كذلك بالبترو دولار. ينبغي ملء هذا الفراغ وخلق فضاءات للحوار العقلاني الهادئ يكون هدفها : أوّلا : التّرويج للإسلام المعتدل المطابق لقيم الحداثة من تسامح وحرية وحقوق الإنسان ونشر ثقافة عقلانية تركز على شتّى المعارف الحديثة والقديمة وخصوصا الإنسانيّات من تاريخ وعلم إجتماع وفلسفة علم نفس...كما يجب إبراز الجانب المشرق من تراثنا وما يزخر به من رموز من أمثال إبن رشد والشاطبي وفرح أنطون والطّاهر الحدّاد...كما أنّ تونس تزخر حاليّا بمفكّرين ممتازين يصعب أن نجد مثلهم في باقي البلدان العربية ولكن أفكارهم ونظريّاتهم بقيت حبيسة أسوار الجامعات أو محصورة في نخبة ظئيلة عدديا. وذلك راجع حسب إعتقادي إلى عدم توفر فضاءات واسعة للتعبير وأيضا إلى أنّ العديد من هؤلاء المفكّرين يُعقّدون الأمور ويستعملون ألفاظا تقنية معقدة أو يدخلون في الإيديولوجيات وعندما يحاول المُتلقّي أن يقرأ لهم يُصاب بالصداع منذ الصّفحات الأولى. فالمطلوب في هذا المجال إستعمال لغة سهلة يفهمها الجميع، فكما قال ماو تسي تونق ينبغي على أعظم فيلسوف أن يخاطب الناس بأسلوب يفهمه أبسط فلاّح في الصّين" إنّ عقلنة المجتمع هي أنجع حماية له من الإيديولوجيات القروسطية ومن التّطرف والإرهاب. فالوسائل الأمنية والسّياسة الإجتماعية لن تأتي بنتيجة كافية إن لم تقتنع العقول. ثانيا: دحض الفكر المتشدد بصفة علنية وصريحة وبأسلوب عقلاني وهادئ. فإلى حد الآن لا نسمع من كل الجهات إلاّ الإستنكار والتنديد بالإرهابيين ويبقى الأهم هو التنديد بمُنظّري هذا الإرهاب ودحض فكرهم. إن ّجذورالإرهاب تكمن في الفكر المتطرّف ولِكي نقتلع هذه الجذور يجب أن ندحض فكر إبن حنبل والغزالي وإبن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وسيد قطب والقرضاوي وكلّ من لفّ لفّهم .فهؤلاء جميعا ليسوا من القداسة في شيء وهم إجتهدوا فأخطؤوا وأضرّوا بالإسلام وشوّهوه. لقد آن لهذا الفكر المتطرّف أن ينحسر ويضمحل فقد طال أمده و بان ضرره وكاد أن يفتك بالإسلام والمسلمين، آن له أن يصبح في ذمة التاريخ فلا تبقى منه إلاّ ذكرى شاحبة مؤلمة. ولتحقيق هذه الأهداف لا بد لفضائياتنا التونسية أن تأخذها بعين الإعتبار وتُدمجها في صُلب سياستها الإعلامية أوإنشاء فضائيات خاصة للغرض. فالوضع الحالي لإعلامنا المُتلفز لا يُعير أهمية كبرى للثقافة الجادة وأغلب إنتاجه ينتمي إلى ثقافة التسلية وهي كما يُعرفها عبد الوهاب بوحديبة »إنتاج يُفضي إلى مجرد التسليم ويدعو إلى تناسي هُموم الدنيا والسّهو عن تعاسة الوُجود والتخلّص الذهني من مشاكل الحياة«. فأنا أشعر بالحسرة عندما لا أجد في فضائياتنا التونسية أو حتى العربية برامج هادفة في مستوى ما تقدمه القناة الفرنسية الخامسة 5 FRANCE خُصوصا البرامج الحِوارية عالية المستوى أو قنوات أخرى مثل Arte أو قناة التاريخ HISTOIRE أو بعض البرامج من نوع سؤال لبطل في القناة الفرنسيّة الثالثة3FRANCE. وهذا البرنامج هو من نوع الألعاب الفكرية وكان عندنا في ما مضى ما يشابهه في فضائيتنا تونس 7 وأعني برنامج "آخر قرار" وقد وقع تعويضه ببرنامج خال من أيّ محتوى تثقيفي جاد. إنّ نشر ثقافة عقلانية مُمكن جدا عبر برامج حوارية ذات لغة قريبة من الجمهور أو ألعاب فكرية متلفزة تُطرح فيها أسئلة في الثقافة المُراد نشرُها ويمكن تشريك أهل الإختصاص في هذه البرامج والإستفادة من تعاليقهم بعد كل سؤال. وأختم هذا المقال بهذه الشّذرة من كتاب "أزمة الثقافة الإسلامية " لهشام جعيط:»..لابدّ من تصعيد الهمّة ورفع درجة المطامح في مجال المشاركة في الإنتاج الثقافي الحديث، وبالتّالي بثّها في مجتمعاتنا لنحت الإنسان العاقل أو الأعقل إلى حدّ ما «.