لا يكتملُ مشروع الحداثة الذي لا تزال مجتمعاتنا تعيشُ مخاضاته وتعاني من تفاقم خطر الارتداد وعدم الاستيعاب لآليات التفكير المعاصر، بدون تدشين قراءة جديدة لنصوص دينية على ضوء التطورات التي تُداهمنا، وذلك لأن الدين قد ارتبط بالجانب الثقافي في تاريخنا، وعندما تم إقفال باب الاجتهاد توقف الحراك الثقافي والفكري، وران الخمول على العقل، فبالتالي نشأت في ظل هذا الواقع المتردي ظاهرة الأُحادية في التفسير والرأي، ما يعني غياب الجدل وجفاف النسغ الذي يستمدُ منه الفكرُ زخمهُ. لذا فمن الطبيعي أن يتحول معجمنا الثقافي إلى وعاء طافح بالألفاظ والمفردات التي ترفض الاختلاف والانفتاح، وتزيد مساحة الفجوة مع الآخر مذهبيا وفكريا ودينياً، من هنا فإن أي محاولة لمناقشة المعطى الديني انطلاقا من خلفية معرفية وفكرية ثرية تدعمُ اتجاها جديدا في الرؤية والفهم، وهذا ما تتوخاه الأكاديمية والباحثة ألفة يوسف، من خلال مؤلفاتها المثيرة للجدل وآرائها الجريئة فآخر ما صدر لها كتاب بعنوان «والله أعلم» حيث تعتمدُ على بنية الحوار مع الآخر القرين بشأن أحكام خلافية، وكان لنا حوار معها بشأن محتويات الإصدار الجديد. يفتحُ كتابُك الأخير الحلقة على بعض المواضيع السجالية، هل تعتقدين أن مناقشة هذه الأحكام الخلافية تدعمُ اتجاهاً جديداً في تفسير النص المُؤسس، وبالتالي يتمُ كسر دائرة أُحادية الرأي في فهم المعطي الديني؟ كسر الدائرة الأحادية بدأته منذ كتابي «تعدد المعنى في القرآن»، وتبينت من خلال قراءة كتب التفسير أن معاني القرآن الممكنة لا حصر لها. وهذا الكتاب محاولة تطبيقية إجرائية من خلال اختيار بعض المواضيع وطرحها في شكل حواري لبيان التعدد بالفعل. في نهاية الأمر، كل التأويلات البشرية ممكنة وما يعلم تأويله إلا الله. من الواضح أن هناك نصوصاً قطعية بشأن أمور حياتية تحسمُ الجدل حول أوجه الحرام والحلال، بالمقابل ثمة مساحة بين هذا وذاك ظلت من باب المسكوت عنهُ، برأيك هل تتمثلُ مهمة المُجددُ في الاشتغال على ما سكتَ عنه المُشَرِعُ؟ عندما ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: الحرام بين والحلال بين، فذاك متصل بما لا شك واختلاف فيه من ضرورة عدم إلحاق الأذى بالغير، أو عدم قتل النفس التي حرم الله، أو عدم الشرك إلخ. ولكن عبر تاريخ التفسير نفسه، نجد أن المسلمين اختلفوا في مسائل حكمية، فالأصل أن الواقع متغير، والنص الديني فيه بعد مقاصدي مفارق، لكن فيه أيضا بعدا تاريخيا سياقيا. وعلى المسلم أن يعي نسبية القراءة. فأنت تستعمل عبارة: «المشرع»، والحق إنني أختلف مع كثيرين يقرون بوجود تقابل بين تشريع إلهي وتشريع بشري، في حين أنه لا وجود في نهاية الأمر إلا لقراءات بشرية لتشريع إلهي. تؤثرينَ توظيف أسلوب الحوار في «والله أعلم» إذ يتابعُ القارئ تيارين مُتضادين في قراءة النص، ورؤية الأمور الخلافية، هل جاء هذا الاختيار دعما لقيم الحوار والانفتاح على الآخر المُختلف؟ □ الحوار له وظيفتان، الأولى هي ما ذهبت إليه أي تأكيد الانفتاح. فما يجمعنا نحن البشر هو الفضاء اللغوي الذي يمكننا من النقاش وتبادل المواقف والرؤى، وهذا الفضاء يسمح بوجود طرفين أو مجموعة أطراف. أما إذا غاب الحوار، فسيرتفع صوت واحد ويخمد بالضرورة باقي الأصوات. وهنا نخرج من مجال التفاعل الرمزي القائم على الكلام إلى مجال الإقصاء الواقعي. وهذا ما نجده على أرض الواقع، إذ تقتل جماعة المخالفين لها أو تسجنهم أو تسكتهم بشتى أساليب القمع والعنف. أما الوظيفة الثانية للحوار، فهي تيسير مهمة القارئ في الاطلاع على مسائل فقهية دقيقة يعسر العثور عليها في أمهات المصادر في زمن عزت فيه القراءة لاسيما لدى الشباب. الشخص الذي يمثل صوتك وآراءك يحاولُ فهم النص وفقاً لسياقه، خصوصاً في ما يتعلقُ بالحجاب وتعدد الزوجات برأيك ما السبب وراء رفض هذه القراءة السياقية في ثقافتنا الدينية؟ ليس هناك رفض مطلق للقراءة السياقية. هو فقط رفض انتقائي. مثلا أغلب تشريعات البلدان «المسلمة» تعمد إلى القراءة السياقية في مسائل السبي أثناء الحروب، وقطع يد السارق، والرق وسواها، ولكنها تحجم عن هذه القراءة في مجال الأحوال الشخصية، لتغلغل النموذج التقليدي للعلاقات الجندرية في المجتمعات. ومن جهة أخرى، فإن القراءة السياقية تزعج البعض لأنها في رأيهم تتقابل مع صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، في حين أن هذه القراءة نفسها هي التي تحقق هذه الصلاحية. فالله تعالى عليم بتغير أحوال البشر ومقامات المجتمعات عبر التاريخ، لذلك كان قرآنه قابلا لقراءات متعددة تبعا لتحول السياق التاريخي. ومسألة الرق أحسن مثال. فالقرآن لم ينه عنه مباشرة، ولكن مقاصد الشريعة تأباه وترفضه. على مايبدو أن مقابلك في الحوار انتقائيُ في التعاطي مع مفهوم الناسخ والمنسوخ، والاستشهاد بالأحاديث والقياس على مواقف الصحابة هل يكون الحل للخروج من الفهم المبتسر للنص الديني قائما على إرساء قراءة مفتوحة على بعد ثقافي وحضاري؟ أهم ما أرجوه هو أن نبلُغَ وعيا عميقا بنسبية القراءات. كثيرون يدعون هذا الوعي، ولكنهم إزاء قراءة مخالفة لهم يندرجون في تكفير الآخر وتخطئته. القراءة المفتوحة هي جوهر القرآن، إذ لا ننسى أن الله تعالى يطلب من الجميع تدبر القرآن: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟» (محمد47، 24). القراءة المفتوحة تتجاوز قراءة القرآن نفسه إلى قراءة كل آيات الكون في أنفسنا وما يحيط بنا: «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» (فصلت41، 53). القراءة المفتوحة اعتمدها الصحابة ومنهم عمر الذي منع الزكاة عن المؤلفة قلوبهم رغم أن النص صريح. القراءة المفتوحة تعرف أن كل شيء يتحول، وأن المعنى لا يمكن أن يكون واحدا ولا جامدا. وحده الله تعالى واحد أحد، أما تآويل كلامه فلانهائية (القدس العربي )