الناس في تونس ثلاثة أصناف في النظر إلى حركة «النهضة»: الأول معارض لها في المطلق وكاره لكل ما تفعله أو تقوله ولا يبدو مستعدا لتعديل موقفه هذا ولو خرجت الحركة من جلدها، الثاني قواعدها الحزبية ومناصروها وهؤلاء من المدافعين عنها في كل الأحوال والمبرّرين لسياساتها والمتذمّرين مما يعتبرونه حالة عداء متأصلة وظالمة ضدها، الثالث لا يملك موقفا مسبقا وثابتا لا بالتأييد ولا بالمعارضة لكنه في المجمل تراه أميل إلى عدم الارتياح للحركة. وحتى إذا لم نسلم بتصنيف كهذا، لما قد يتراءى فيه ربما من تبسيط وتعميم لا تسندانه أرقام إحصاءات ذات مصداقية، فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة أثبتتا أن الحركة ليست بتلك التي يخشى هيمنتها المخيفة على المشهد، كما يتم التحذير دائما من أي انتخابات حرة يشارك فيها الإسلاميون، ذلك أن مرشحها للرئاسيات حل ثالثا ليس إلا، فيما لم تفز هي سوى ب52 من مقاعد البرلمان ال 217 وإن جاءت في المرتبة الأولى، وإليها يعود الحق الدستوري في تشكيل الحكومة الجديدة. ما نراه هذه الأيام أن الصنف الأول المشار إليه أعلاه ازدادت نبرة كرهه للحركة فيما يشهد الصنف الثاني بعض التململ في وقت تتجه فيه كفة الثالث إلى مزيد من التوجس منها. يمكن تلمس هذا المزاج حاليا في ما يتم الخوض فيه إعلاميا سواء في نقاشات تلفزيونية أو مقالات صحافية أو مواقع التواصل الاجتماعي التي تتمتع بمكانة هامة في تشكيل الرأي العام المحلي. أما أسباب ذلك فتعود إلى مجمل تطورات شهدتها الساحة الوطنية جعلت حركة النهضة وقيادييها وقواعدها أمام عدد من الأسئلة الحارقة أهمها إلى حد الآن: الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة أثبتتا أن حركة «النهضة» ليست بتلك التي يخشى هيمنتها المخيفة على المشهد، كما يتم التحذير دائما من أي انتخابات حرة يشارك فيها الإسلاميون أولا: اختيار زعيم الحركة راشد الغنوشي ليكون رئيسا لمجلس النواب الجديد وقد قارب الثمانين من العمر ما يجعله في الغالب غير قادر على تحمل أعباء جلسات تمتد لساعات طويلة مع نقاشات مضنية قد تعرضه حتى لبعض التنمر الذي بدأت مؤشراته منذ جلسة أداء اليمين. لقد أثار هذا الاختيار استغراب حتى بعض المعجبين العرب بتميز تجربة الحركة الإسلامية في تونس ومرونتها، خاصة إذا ما قورنت بما ارتكبه «الإخوان المسلمون» في مصر من أخطاء قاتلة، فقد اعتبروا أن مكانة الغنوشي كمؤسس ومنظّر وزعيم هي أكبر من أن يطمع في مثل هذا المنصب الذي لن يضيف له شيئا بل قد ينتقص، والذي كان بإمكانه أن يدفع إليه، لو شاء، ببعض قيادات «النهضة» الشابة أو حتى أن تزهد فيه الحركة مرة واحدة حتى لا تتهم بنزعة الهيمنة على الدولة برئاسة البرلمان والحكومة معا. ثانيا: أن هذا الوصول لرئاسة البرلمان ما كان ليتم دون أصوات حزب «قلب تونس» الذي وصف وقيادته وأنصاره بأسوأ ما يمكن أن يلصق بالمنظومة القديمة من فساد. كانت حركة النهضة ترفض أي تحالف معه أو تأييد، وتعهدت بذلك في كل مراحل الحملة الانتخابية. الأسوأ من هذا التصويت، الذي جاء بالتأكيد نتيجة توافقات وتفاهمات لا أحد يعلم تفاصيلها بعد، ما صرح به الغنوشي نفسه في تبريره. لقد قال عندما سئل عن هذه المفارقة بأن «الأغبياء وحدهم لا يغيرون آراءهم» مما مثل طعنة لأية مصداقية أو مبدئية من قبل من يفترض أنه حريص على أخلقة الحياة السياسية وتنظيفها، حتى وإن سعى بعض أنصار الحركة للقول إنهم دفعوا لذلك دفعا بسبب «ابتزاز وتعنت» أطراف سياسية أخرى رفضت التعاون مع الحركة.. مما يعني هنا أيضا أن تكلفة وصول الغنوشي لرئاسة البرلمان كانت أفدح مما لحق به هو شخصيا. ثالثا: اختيار حركة النهضة لشخصية مغمورة لتشكيل الحكومة الجديدة هو كاتب دولة (وكيل وزارة) للزراعة في حكومة سابقة. ما عرف عن الحبيب الجملي إلى حد الآن لا يتعدى كونه شخصية مستقلة غير متحزبة، مشهورا بالنزاهة ونظافة اليد، لكن ذلك لا يكفي في بلد على رئيس الحكومة، الشخصية الأولى في السلطة التنفيذية وفق الدستور التونسي، أن يعالج فيه ليس فقط ملفات سياسية داخلية ضاغطة للغاية، وإنما أيضا أن يتصدى لمشاكل اقتصادية واجتماعية لا حدود لها مع استحقاقات قاسية مع صندوق النقد والبنك الدوليين وضرورة جلب مزيد الاستثمارات إلى البلاد وطمأنة شركاء تونس التقليديين. كلها تستوجب أن يكون المرشح لمنصب رئيس الحكومة متمتعا بتجربة كبرى وعلاقات دولية قوية ووزن داخلي يخوّله تجميع أقصى ما يمكن من الفرقاء حول برنامج إنقاذ اقتصادي واجتماعي حقيقي. للأسف، لا أحد رأى شيئا من هذا في السيد الجميلي، خاصة مقارنة بأسماء تم تداولها من قبل، بل رأوا أن حركة «النهضة» ما كانت لتختاره سوى لأن يكون شخصية طيّعة لديها، غير مستفيدة من تجربة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي عندما ظن الشيء نفسه مع يوسف الشاهد. بالتأكيد، للنهضة وأنصارها ما يدافعون به عن أنفسهم بخصوص كل ما سبق ولكن هذه الأصوات لا تبدو، إلى حد الآن، مسموعة أو مقنعة لأن حجم الضرر الحاصل كبير، وما جلبته الحركة لنفسها إنما كانت في غنى عنه بالكامل. تناست الحركة للأسف الشديد المثل المصري القائل «إمش عدل يحتار عدوّك فيك».