المتظاهرون الذين رفعوا راية التسامح وخرجوا امس في مدينة كولونيا الالمانية بالآلاف احتجاجا على مؤتمر يجمع احزاب اليمين المتطرف في اوروبا من معارضي ما يزعمون انه انتشار للاسلام في القارة العجوز، انما اعادوا الى السطح مسألتين اساسيين فيما بات يسمى اليوم بصراع الاديان والحضارات وحرص بعض من تنظيمات اليمين المتطرف الفقاعية على التمسك بوجود عدو مفترس يتربص باوروبا ويهدد امنها واستقرارها، تماما كما كان عليه الحال في مرحلة الحرب الباردة وذلك بهدف واحد وهو ضمان استمرار الاسباب التي من شانها ان تبرر وجود مثل تلك الحركات ونشاطاتها العنصرية التي تقوم على الاعتقاد بالتفوق على الاخرين ورفض وجود الاجنبي بكل ما يعنيه ذلك من مشاعر العداء والكراهية والحقد التي يمكنها ان تتحول ولابسط الاسباب الى مواجهات عنيفة وخطيرة. والحقيقة ان وراء انضمام كل من زعماء الحزب الفلامنكي ورابطة الشمال الايطالي وغيرهم من زعماء احزاب اليمين المتطرف من اسبانيا الى النمسا وبريطانيا وفرنسا ما يعكس توجها لم يعد بالجديد داخل الساحة السياسية الاوروبية بعد ان نجحت هذه الاحزاب في تحويل الاحتجاجات الشعبية على التحولات الحاصلة بسبب البطالة وقضايا الهجرة وتراجع الثقة في السلطات في مواجهة تلك القضايا والحد منها لاستغلالها في خطابها الانتخابي وتعزيز صعودها لدى فئة معينة من الشعوب الاوروبية التي يبدو انها وجدت فيها ما يضخم حسابها. قد يكون اليمين المتطرف اقلية في اوروبا بحيث لا تتجاوز نسبته في المانيا خمسة في المائة او عشرة في المائة في بلجيكا او خمسة عشرة في المائة في فرنسا وربما مثلها او أقل في البلدان الاسكندنافية واذا كانت السلطت الرسمية غالبا ما تبدي اعتراضها وتنديدها بتحركات اليمين المتطرف فانها غالبا ما ترى في التظاهرات التي ينظمها حقا مقدسا في التعبير لامجال لمنعه او مصادرته تماما كما حدث خلال ازمة الرسوم المسيئة للرسول وما تلاها من ازمات اخرى استهدفت الاسلام والمسلمين.. طبعا الامر لا يتعلق باستعراض ما تعرض له المسلمون من اهانات وانتهاكات منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ولا يتعلق ايضا بالبحث عن شماعة تتحمل خيبات العرب والمسلمين المتتالية ولا حتى بمقاربة بين ما ارتكبته تنظيمات اصولية متطرفة في اكثر من عاصمة اوروبية فهذا المؤتمر الذي ينعقد تحت شعار "ضد الاسلمة" يعكس جزءا من معركة ايديولوجية حضارية وثقافية تزداد اتساعا بين الشرق والغرب وبين الاسلام والغرب وقد ساعدت في تفاقمها وخطورتها الصراعات والحروب المستمرة في الشرق الاوسط من العراق وافغانستان وفلسطين والشيشان والصومال وغيرها بما يجعل التطرف عملة واحدة لوجوه مختلفة يمكن ان تتخفى خلف العمامات واللحي الطويلة لزعامات التنظيمات الاصولية المتطرفة كما يمكن ان تتخفى ايضا خلف القبعات العصرية والشعور الحليقة وكل ما ارتبط بافكار ومخططات المحافظين الجدد او كذلك النازيين الجدد حيث لا يبدو حتى الان ان مختلف الجهود التي تبذل والاموال التي ترصد لتنظيم المؤتمرات والندوات لتعزيز حوار الحضارات وتحقيق مبدا التعايش السلمي بين الجميع قد حققت النتائج المرجوة.. ولاشك ان تحقيق أي نتائج في هذا لاتجاه يتجاوز حدود الخطب والبيانات واطلاق الحوارات بين رجال الدين من مختلف الاديان ولعل الحوار الذي انطلق حتى الان من القمة يحتاج بعض التصحيح من اجل ان يشمل القاعدة الاوسع المعنية بالتعايش فيما بينها... لقد تزامنت اشغال هذا المؤتمر مع سلسلة من الاحداث التي ارتبطت بنتائج استطلاعات الراي التي اجريت في اربعة وعشرين بلدا اوروبيا اظهرت تنامي المشاعر السلبية ازاء المسلمين والشعور المعادي للسامية في اوروبا وظهور اكثر من تحرك في اكثر من اتجاه لاستصدار قرار يحظر بناء المساجد كما هو الحال في ايطاليا حيث تعتزم رابطة الشمال الايطالية المتحالفة مع اليمين الوسط الحاكم تقديم مشروع قانون الى البرلمان لمنع بناء مساجد جديدة في اوروبا تماما كما هو الحال بالنسبة لكولونيا التي طالما اعتبرت اكثر المدن الاوروبية تسامحا والتي تحتضن المؤتمر المعادي للاسلام الذي يهدف بدوره الى منع بناء مسجد في المدينة لاكثر من مائة وخمسين الف مسلم يعيشون فيها وكان حظي بموافقة البلدية منذ اوت الماضي. ان في الموقف الرافض لآلاف المتظاهرين الرافضين لمؤتمر الاحزاب المتطرفة في اوروبا ما يشكل صرخة فزع حول مخاطر العنصرية الجديدة التي اتخذت من الاسلام والمسلمين العدو الاول وتناست ان للتطرف القادم من الغرب مخاطره ايضا لا على الخارج فحسب ولكن ايضا على المبادئ الاساسية المرتبطة بالحرية والديموقراطية والمساواة التي طالما تمسك بها الغرب واعتبر انها سبب تفوقه وتقدمه على الاخرين..