«المعرفة بالتّوراة والفكر العبري مدخل أساسي لحلّ القضيّة الفلسطينيّة» عهود الأندلس مثّلت العصر الذهبي للفكر العبري اليهودي على مدى تاريخه ماذا يعني أن نشتغلّ راهنا بدراسة اليهوديّة تاريخا وفكرا وديانة ولغة. وماذا يعني أن نختصّ بدراسة تاريخ الكتاب المقدّس (التّوراة) في علاقته بمشروع الدّولة الإسرائيلية وبالقضيّة الفلسطينيّة؟ وماذا تفيد في هذا الظرف الرّاهن من الصّراع العربي الإسرائيلي أو من التّفاوض الدّائر من أجل السلام بين العرب وإسرائيل الاهتمام بدراسة العلاقة بين الثّقافة العربيّة الإسلاميّة والفكر العبري أو بين اليهوديّة والإسلام. طبعا المسألة تتجاوز سياق المعرفة والثّقافة إلى السّياسة والعقيدة. وهي حسّاسة وإشكالية للغاية، وفيها ملابسات كثيرة يرتبط بعض منها ببنيات لا شعوريّة وجراحات ثاوية في الذّاكرة الجمعيّة لدى الطّرفين العرب واليهود، فلسطين وإسرائيل... في هذا الشّأن بالذّات ظهر باحث مغربي مقتدر اختصّ منذ ما يزيد على الثلاثين سنة في تاريخ اليهود، وحذق اللّغة العبريّة، وأعدّ دراسات كثيرة ومرجعيّة حول الصلات التاريخيّة أو لنقل الحقيقيّة بالعرب وبالثّقافة الإسلاميّة. وبكلّ ما له علاقة بالوضع الحالي للكيان الإسرائيلي وقضيّة فلسطين. هذا الباحث هو الأستاذ الدّكتور أحمد شحلان صاحب المؤلّفات التّالية: 1) المدخل إلى اللغة العبريّة: الدّار البيضاء، ط1 و2، 1988. 2) ابن رشد والفكر العبري الوسيط: فعل الثّقافة العربيّة في الفكر العبري الوسيط: مرّاكش (في جزأين). 3) لغة البلاغ عند موسى وهارون: نظرة نقديّة في مدوّنة التّوراة، الرّباط، 2002 (مؤلّف مشترك). 4) التّوراة والشرعيّة الفلسطينيّة، منشورات الزّمن، المغرب 2003. 5) كتابات شرقيّة في الأخلاق والتصوّف والأديان (بالاشتراك) منشورات جامعة محمد الخامس 2007. ومن ترجماته: 1) ألّف عام من حياة اليهود بالمغرب (من الفرنسية إلى العربيّة) الدّار البيضاء، 1997. 2) الضّروري في السّياسة (مختصر سياسة أفلاطون لابن رشد)، (ترجمة من العبريّة إلى العربيّة) بيروت 1998. 3) يهود الأندلس والمغرب (ترجمه من الفرنسيّة إلى العربيّة) الدّار البيضاء، 2000. 4) يعكف حاليا على ترجمة كتابات أخرى تجسّم التواشج المتين بين العبريّة والعربيّة. * كيف ظهر اهتمامكم بالعبريّة وتاريخ اليهود، وفي أيّ سياق يمكن أن ننزّل طبيعة الدّراسات التي تنجزون؟ في دراستي الثانويّة، وفي لحظة ما وجدتني منجذبا إلى قراءة الفلسفة اليونانيّة وقراءة روائع الأدب العالمي، غير أنّ تلك القراءات لم تحقّق لي ما كنت أريد فانجذبت إلى قراءة روائع الآداب الشرقيّة في اللّغة العربيّة وآدابها وفي غيرها من اللغات التي كنت أحذق آنذاك.وقد تراءى مع دخول مرحلة التخصّص في الجامعة بباريس أنّ المعرفة باللّغة العبريّة تساعد على الإلمام أكثر بمعرفة تاريخ الثّقافة والأدب والدّين في الشّرق. فمثلا كنت قد أثرت سؤالا تأكّد لي في ما بعد أنّ قوّة الشّعر الجاهلي لا ينحصر مسارها في تلك الفترة القصيرة بين حياة المهلهل ونضج الشّعر الجاهلي. وهكذا كدت أنسى هوايتي الأولى المتمثّلة في الانشغال بقضايا الفكر الفلسفي، حين اخترت التخصّص في فقه اللغة وأنا في جامعة السّربون وسجّلت أطروحة بعنوان: "الدّراسات اللغويّة على عهد الموحّدين". وانخرطت في "المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقيّة" فدرست في إطار الديبلوم العادي للغة العبرية اللّغة الآرميّة والسّريانيّة والفينيقيّة. وهنا أذكر أنّ رفقائي كان أغلبهم من التّونسيين. ولمّا اتّجهت إلى التخصّص أكثر لاحقا في الفيلولوجيا وأعني النّظر في لغة الأديان، كانت عودتي مجدّدا إلى الفلسفة وأمّهات قضايا الفكر، وأذكر في هذه الفترة بالذّات أنّ طالبا تونسيّا، طلب منّي أن أقرأ له نصّا للفيلسوف ابن رشد ضاع في أصله العربي، وبقي فحسب مكتوبا بالحرف العبري. كانت قصّة جميلة مثّلت لديّ ميلادا جديدا لنوع من الدّراسات سعدت به كثيرا، لكونه أرجعني إلى فترة غنيّة في تاريخنا، حضارتنا العربيّة الإسلاميّة، تلك الحضارة التي مكّنت كلّ الناس بقطع النّظر عن هويّاتهم وأديانهم من ولوج المعرفة الإسلاميّة والمعرفة الكونيّة الشّاملة ممثّلة في التّراث الإغريقي، والمشاركة في تعلّمها وتوظيفها ثمّ الإنتاج على منوالها. فالثّقافة الإسلاميّة الروحيّة والعقليّة على السّواء تلك التي ساهم في إنتاجها الجاحظ وابن سينا والغزالي بالمشرق وابن طفيل وابن رشد وابن حزم وابن عربي بالمغرب كانت مصدرا أساسيّا من مصادر المعرفة التي استفاد منها يهود المغرب والأندلس. بل هم قد أسّسوا عليها كلّ علومهم العقليّة والعلميّة. ومن خلال نقلها إلى العبريّة وصلت إلى اللّغة اللاّتينيّة، وساعدت على إنجاز النّهضة الأوربيّة واستثمرت في تقدّم المعرفة البشريّة. وهذا الفضل بالذّات للعلوم الإسلاميّة في تاريخ الإنسانيّة هو الذي ضربت عليه الكثير من الأسدال من قبل المؤلّفات الغربيّة المعاصرة، تلك التي أرّخت للعلوم عامّة دون أن تبرز ذاك الفضل للمعرفة الإسلامية في غيرها من الفنون والعلوم الأخرى. * لقد دأبت الدّراسات المنجزة في المسألة خاصّة العبريّة إلى اعتبار الفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون أبرز من جسّم هذا المنزع. ما رأيكم؟ لا يمكن أن نقول إنّ ابن ميمون أفضل من جسّم حضور الثّقافة العربيّة لدى اليهود، فهو من بين أعلام اليهود الذين فعلوا ذلك وهم كثير. وفي مجالات مختلفة من المعرفة البشريّة. لقد اكتسب ابن ميمون هذا لأنّ اليهود أنفسهم هم الذين أضفوا عليه تلك الصّورة ومنحوه هذه المنزلة قولتهم في ذلك غنيّة عن كلّ تعريف، وهي: "من موسى إلى موسى لم يظهر مثل موسى" (موسى الأوّل مقصود به النبيّ موسى الثاني هو موسى ابن ميمون): موضوع هذا الكلام. فابن ميمون كان من بين أكثر أعلام اليهود الذين قاموا بهذه المهمّة. وهنا يهمّني أن يعرف القارئ لماذا كان ذلك كذلك؟ إنّ عناية اليهود بالثّقافة العربيّة الإسلاميّة يعود في أصله إلى كون المجتمع الإسلامي الأندلسي مكّنهم من ذلك، وأفسح مجال المعرفة أمامهم. وإنّي وأنا أقرأ ما كتبوه لمست شيئا لم تتحدّث عنه كتب التّاريخ، وهو أنّ المجتمع الأندلسي منح لليهود مقاعد للدّراسة مع مواطنيه من المسلمين. فثقافة هؤلاء اليهود فيها القرآن والحديث وعلم الكلام والتصوّف. وفيها الكثير من أقوال سلفنا الصّالح. ونقلوا من تلك الحكم والأقوال الكثير إلى كتبهم، إمّا بمرجعيتها وإمّا بمعانيها، فالقارئ لنصوص علماء اليهود ومفكّريهم يلمس حضورا بارزا للثّقافة الإسلاميّة وهذا لا يتأتّى إلاّ إذا أخذوا من نفس مصادر المعارف الإسلاميّة بما في ذلك مدارسها وحلقات علمائها. ونجد أثارا لذلك في كتب ابن الخطيب (لسان الدّين) وفي "الذّخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لابن بسّام، وفي "نفح الطيّب في غصن الأندلس الرّطيب" للمقرّي، وفي الكثير من كتب الفتاوى "كالمعيار" للونشريسي وفي غيرها. لقد استفاد اليهود من علماء الأمّة، ورعت الحضارة الإسلاميّة قسما من رعايا بلاد الإسلام وهم اليهود وقد ساهم العرب في إخراج اليهود من عزلتهم التي كانوا عليها، وهم بين شعوب وأمم أخرى من غير المسلمين، وقد بيّنت في المداخلة التي قدّمتها في النّدوة الدوليّة: "الوئام والتّآلف بين الأديان والثّقافات" التي نظّمها المعهد العالي لأصول الدّين بالتّعاون مع مؤسّسة كونراد إدناور الإنتاج المشترك للمعرفة في أندلس التّسامح، فعهود الأندلس مثّلت العصر الذّهبي للفكر العبري اليهودي على مدى تاريخه. وقد أدلى بهذه الشّهادة وأكّدها كبار علماء اليهود والمهتمّين بتاريخ الفكر في الغرب الإسلامي. * ولو سألتك في ما يمكن أن يفيد البحث في اليهودية ديانة وتاريخا في القضيّة الفلسطينيّة وفي مجرى الصّراع بين إسرائيل وفلسطين؟ لقد أفردت لهذا كتابا بأكمله هو "التّوراة والشرعيّة الفلسطينيّة" طرحت فيه أصول فكرة الدّين الوطني في تاريخ اليهوديّة؟ وهل لها سند في نصّ "الكتاب: التّوراة"؟ "وما حظّ الفلسطينيين" بوصفهم عربا من نسل إبراهيم، في "الأرض الموعودة" وهل تعبيرة "دولة يهوديّة" سليم في حدّ ذاته حتّى في مفهوم شارون؟ وكانت تلك أسئلة اتّبعت مسار الجواب عنها في نصوص التّوراة وسائر مصنفات التّاريخ. وأعود هنا إلى سؤالكم، فأقول إنّ هذا النّوع من المعرفة بالتّوراة وبتاريخ اليهود مهمّ جدّا اليوم، وله فاعليّة كبرى، ذلك أنّه يفيد في إبراز صفحة لم تظهر بعد ولم تتشكّل ملامحها نهائيّا في الكتابات العربيّة والعبريّة، ومن ثمّة إدراك مسالك جديدة أكثر نجاعة لتسوية القضايا المطروحة، ولحلّ المشاكل القائمة. فالتّاريخ سلطة ممتدّة فينا. كما أنّ الدين ممتدّ في شعورنا الجمعي ومؤثّر، ولهذا الاعتبار يحسن العلم به على الوجه الصّحيح. كما يجدر توظيفه توظيفا حسنا بحسب ما أهلّ له، هذا بالنّسبة إلى اليهوديّة والإسلام. والأكيد عند كثير من اليهود الذين اهتمّوا بعلم العصور الوسطى أنّ تمكين المواطن باعتباره مواطنا؟ إنسانا -بقطع النّظر عن معتقده الدّيني- من المعرفة والمشاركة في التّدبير، بما في ذلك بناء بعض العصور التّاريخيّة كتولّي اليهود مناصب كبرى كذى الوزارتين في غرناطة، وفي فترة حكم الطوائف، من المفترض أن يكون لهذا أكثر من دلالة في عصرنا الرّاهن. إنّ أهمّ إنتاج في الفكر اليهودي هو ثمرات الثّقافة العربيّة الإسلاميّة بالأخصّ في الغرب الإسلامي، وتوجد إلى حدّ اليوم الكثير من المخطوطات يتمثّل فيها كلّ التمثّل ما ألمعنا إليه أعلاه، وهي في رفوف المكتبات، ومدوّنة باللّغة العبريّة، وقد وضعها علماء اليهود ومفكروهم. وهذه المؤلّفات تقوم اليوم شهادة حيّة تبرز سعة صدر الإسلام. لكن وهنا يجب أن ننتبه أنّ اليهود يفضّلون أن يخرجوا (يظهروا) فقط من تراثهم ماهو لصيق بهم أكثر! وفي هذا السّياق بالذّات نريد نحن اليوم أن نبرز هذا الجانب من الثّقافة الذي كان من الأولى أن يدافع عن قضيّتنا التي هي قضيّة فلسطين. وعلينا أن نعرف كيف نوظّف هذه المعرفة في قضيّتنا. وهنا تحضرني تلك الفكرة التي قلتها في خاتمة ترجمتي لكتاب لحييم زعفران "يهود الأندس والمغرب" أنّه على أحفاد هؤلاء اليهود الذين عاشوا بالعالم الإسلامي العربي، وكانوا جزءا من المجتمع المغربي أن يردّوا الدّين، وينصفوا كلّ فلسطيني بدفاعهم عن حقّه ووطنه تماما كما منحوا هم سابقا حقّ المواطنة والانتماء في المجتمع الأندلسي والمغاربي وإلى عهود متأخّرة كان ذلك كذلك في أرض المغرب الأقصى وتونس وفي دول عربيّة أخرى... فإلى متى يظلّ الجهل بالتّاريخ وعدم المعرفة بالأديان على حقيقتها عائقا أمام تسوية النّزاعات والتئام الجّراحات ومنح الحقوق الشرعيّة لمستحقيها.