نعود في كل مرة لنوضح ما قيل في شأن محجوب بن علي لكن في كل مرة عند قراءتي لهذه الردود ابقى اتساءل عن لجوء اصحابها الى استعمال لغة بعيدة عن الرأي السديد والتعبير السليم كالتي افتتح بها السيد رشيد البكاي الكاتب والصحفي ببنزرت رده الذي صدر بجريدة الصباح الغراء يوم الاحد 30 نوفمبر 2008 على الصفحة 12 بركن «وجهات نظر» وقد بدأ كلامه ب: كم اثارني واستفزني ذلك التعليق الخ.. وكرر هذه العبارات في بداية الفقرة الثانية وكانه يخاطب مراهقا لا يحسن التعبير فيما يقول ويكتب بينما هو يخاطب استاذا جامعيا مؤرخا ومؤلفا لعديد المراجع وهو الاستاذ محمد ضيف الله الذي عرفته شخصيا من خلال كتاباته ولم التق به مباشرة ولو مرة واحدة حتى هذه الساعة كي لا يظن السيد رشيد البكاي انه يدافع عني لسبب او لآخر. واعود الان الى اصل الموضوع وهو ما كتبته عن محجوب بن علي الذي لم يقنع بعض الذين ردوا علي وجميعهم من بنزرت مثل المناضل الحبيب طليبة والسيدين رشيد الذوادي ورشيد البكاي وقد شككا في كل ما قلته في هذا الشأن. اولا: لم اكتب عن محجوب بن علي من فراغ او عن طريق السمع وروايات الناس فقد عشت قريبا جدا منه وفي موقع سمح لي بان اكون مطلعا على الكبيرة والصغيرة في الحياة المهنية لهذا الرجل: ثانيا: لم اتحدث عن محجوب بن علي اثناء المقاومة ولم انكر عليه ذلك رغم اني سمعت اشياء كثيرة من الذين عاشروه في تلك الفترة لا اريد ان اتعرض اليها لاني لم اعشها معه ولا اريد من باب الصدق ان اعيد كلام الاخرين. لقد تحدثت عنه بداية من معركة بنزرن واثناء تحمله مسؤولية قيادة الحرس الوطني في ظروف استثنائية ذكرتها بتفاصيلها في كتابي الاخير لاني كنت شاهدا على ذلك. ثالثا: في كل مرة يقع اقحام جهة بنزرت في هذه الردود التي جاءت تدافع عن محجوب بن علي بينما الامر يتعلق بشخص واحد لا علاقة لتصرفاته اثناء تحمله مسؤولية ادارية بالوطنيين والمناضلين والمقاومين الذين انجبتهم جهة بنزرت والذين لا ينكر عليهم احد قيمتهم النضالية ومقاومتهم للاستعمار وتاريخهم المجيد. وانا من بين الذين يقدرون قيمة الرجال والمناضلين الصادقين وقد عشت منذ الطفولة متشبعا بالروح النضالية واحترام القيم الانسانية لكن ما كتبته يتناول تصرفات شخص عرفته وتعاملت معه وقد كنت من الذين لم يتجاسر محجوب بن علي في يوم من الايام او في اية لحظة ان يطاله بكلامه المهين مثلما كان يفعل مع الكثيرين. ورغم هذا فقد كنت اقدر المسؤولية التي وضعتها الدولة على عاتقه لاني كنت احترم كيان الدولة وعلى رأسها الزعيم بورقيبة الذي كان يحظى بالاحترام والتقدير من طرف الجميع واني لم احقد على محجوب بن علي كما جاء بمقال السيد رشيد البكاي غير اني كنت لا اتفق معه تماما في اسلوبه العنجهي وتصرفاته العشوائية وعدم احترامه لكرامة الرجال وتشبثه بالهامشيات عوضا عن توجيه عنايته للعمل الجاد وخلق اطار كفء يساعده على بناء هيكل يجب ان يتطور مع تطور المجتمع. وقد منحتني الايام فرصة لاعيش مع مسؤولين كبار في هياكل مماثلة بالدول الراقية كالولايات المتحدةالامريكية وسويسرا ورأيت كيف تبنى العلاقة السليمة بين الرئيس والمرؤوس وهي القاعدة الاساسية في بناء الهياكل السليمة وتوفير المناخ الملائم للعمل الجاد والمثمر الذي يجعل من هذه الهياكل ركيزة لضمان حرية الانسان وصون كرامته واعطاء الفرد قيمته في مجتمعه. ورغم هذا التباين فقد بقيت منضبطا فلم اوجه رسائل مجهولة المصدر الى الرئاسة والداخلية لكشف تصرفات محجوب بن علي مثلما فعل اقرب المقربين منه الذين كانوا يستغلون مواقفة المتضاربة لتنفيذ اغراضهم الشخصية فكانوا يساومونه في كثير من القضايا فيرضى ويسكت عنهم لانهم كانوا يعرفون اسراره ونقاط ضعفه وقضايا الفساد التي كان يرتكبها ويعرفون ايضا كيف تخلص محجوب بن علي من نخبة من ضباط القيادة دون ان يشاركوا في مؤامرة ديسبمبر 1962 لا من بعيد ولا من قريب لانه كان يخاف من مزاحمتهم له على كرسي القيادة وقد كلفني محجوب بن علي بالبحث في هذه الرسائل بحكم اختصاصي المهني واطلعت على ما جاء فيها. لذا اريد ان اسألكم ايها المدافعون عن محجوب بن علي هل عشتم معنا ليل نهار ونحن في شبه معسكر اعتقال بثكنة القرجاني وهل رأيتم مثلنا كيف تنزع الرتب من على اكتاف اصحابها وهل عشتم وكل واحد وراءه اخر يرصد تحركاته وينقل كلامه حقا وباطلا وهل رأيتم من اصبح تائها من الاعوان في شوارع العاصمة مصابا في مداركه نتيجة المس من كرامته وكرامة زوجته وهل استمعتم الى خطاب محجوب بن علي امام الاعوان والضباط وهو يدعى نظافة اليدين وهو الذي اثرى على حسابهم فاصبح يملك الارضي والفيلات ورخص التاكسي ويقوم في بداية عهده بمسؤولية القيادة بوضع اموال طائلة تقدر بمائة وعشرين مليونا في حساب خاص مغلق (BLOQU#0201) باسمه الشخصي لدى قابض المالية باريانة (لان البنوك لم تكن موجودة في كل مكان في ذلك الوقت) فمن اين له ذلك في تلك الفترة التي كان فيها كل موظف وكل مسؤول يتقاضى مرتبا معروفا ومتواضعا والكل يعرف ان محجوب بن علي لم يكن يملك شيئا قبل تحمله هذه المسؤولية والجميع يعرف ايضا منحدراته الاجتماعية فهل ان النضال والمقاومة وهو ما قام به عدد كبير من المقاومين والمناضلين بمختلف جهات البلاد وقد عاشوا بشرف ومنهم من عاش فقيرا ومات فقيرا يبرر ارتكاب مثل هذه الاعمال الظاهرة والخفية والتي تدخل تحت طائلة القانون في الشعوب الراقية التي تحترم القيم ولا تدافع عن الظلم والفساد. وهل من حق من رفع السلاح في وجه الاستعمار ان يدوس القيم بعد الاستقلال فيوجه سلاحه ضد اهله واقرب الناس اليه الذين قاوموا الاستعمار مثله وحتى اكثر منه احيانا. واغرب ما اراد السيد رشيد البكاي ان يبرر به ما قام به هذا الرجل هو ان اعطى لنا مثال صدام حسين حيث قال: (فهذا المرحوم صدام حسين شهيد الامة ورمز البطولة والشهامة رغم الالاف المؤلفة من الضحايا ورغم السياسات الفاشلة والاخطاء الفادحة ويزيد فيعطينا امثلة اخرى من هذا القبيل) وكأنه يريد ان يقول لنا ان محجوب بن علي بقي بطلا وشهما رغم تصرفاته واهانته لغيره واعتدائه على كرامة رجال قاوموا الاستعمار مثله فنسي السيد رشيد البكاي او غاب عنه ان صدام حسين قد كانت نهايته معروفة لدى الجميع وهنا اريد ان اقول: فاذا نزعنا عنا بحق العاطفة الجياشة وحكمنا على الواقع بصدق وتجرد عندها يمكن ان نؤكد ان استعمار العراق قد جاء نتيجة لتصرفاته وهو ما يؤكده ابناء العراق الذين شردوا في عهده وذاقوا الامرين من حكمه وتسلطه على ابناء شعبه وعلى كل من خالفه الرأي. اما نحن على كل حال فنحمد الله على ان سلطة محجوب بن علي وامثاله من المغامرين كانت محدودة في الزمان والمكان وفي حدود ضيقة لم تتعد ثكنة القرجاني والا لآت الامور الى ما لا يحمد عقباه وقد كانت تخامره مثل هذه الافكار التي يعرفها كل من كان يحيط به. اما الشهامة يا صديقي فلها اصول ولها قواعد فماذا سيكون جوابك يا سي رشيد لو اعلمتك ان محجوب بن علي لما زار منزل بورقيبة بعد تحول السابع من نوفمبر والتفت الى التمثال التذكاري للزعيم بورقيبة وقال: هل مازلتم تحتفظون بهذا التمثال في منزل بورقيبة وهذا التمثال بطبيعة الحال هو لولي نعمته بورقيبة الذي لولا حمايته له لما كان وصل الى منصب القيادة ولولا بورقيبة لبقي محجوب بن علي في رتبة عون عادي مثلما بقي مقاومون مثله رغم ان للبعض منهم شأنا كبيرا في المقاومة والنضال ولهم مستوى تعليمي احسن منه. والامثلة كثيرة ومتعددة في حياة هذا الرجل الذي كان دوما يركب الاحداث فيستغل غيره ليصعد على كتفيه. فماهو رأيك يا سي رشيد فيما صرح به محجوب بن علي بعد معركة بنزرت بيومين عند اجتماعه بالضباط في غياب آمر الحرس محسن نويرة الذي كان بالولايات المتحدة اثناء معركة بنزرت وقد كنت حاضرا من بين هؤلاء فعندما سأل عن عدد الشهداء من اعوان الحرس في المعركة اعلموه بان عددهم سبعة عشر شهيدا فضرب على كفي يديه وقال «شوية» وقد كان يريد ان يقيم قائمة باكثر من مائة شهيد ليظهر للقيادة السياسية انه بطل معركة بنزرت وهو تفكير يعاكس تماما فلسفة القيادة الرشيدة وحسن ترتيب الحروب والمعارك التي تسعى فيها القيادات العسكرية الحكيمة الى ان تتكبد اقل الخسائر البشرية الممكنة لان الحرب مهما تطورت فيها الاسلحة الفتاكة فهي تعتمد اولا وقبل كل شيء على الرجال وهو عكس ما كان يطبقه محجوب بن علي في حياته اليومية. فهل تدافعون عن شخص كان يتاجر بارواح الناس فارواح الناس ليست بنادق ورشاشات او مدافع تعوض بالمال بعد انتهاء المعركة. وهل مازلتم تعيشون في الماضي والبلاد قد تغيرت كليا بعد اكثر من نصف قرن وتسألونني لماذا لم اقل هذا الكلام قبل عشرين سنة او اكثر فهذا الكلام الذي قلته قد كتبته الذاكرة ورسمته في اعماقها منذ اكثر من عشرين سنة ومنذ ان كنت اعيش مع زملائي الذين يعرفون مثلي هذا الواقع لكن من كان يتجاسر على نشر هذا الكلام على الكتب وعلى صفحات الجرائد الا بعد ان فتح التاريخ جناحيه ليستوعب ما اصبحت تفرضه قيم الحرية والديمقراطية التي اقرها رئيس الدولة زين العابدين بن علي في خطابه التاريخي الشهير يوم 7 نوفمبر 2007 بمناسبة الذكرى العشرين للتحول والذي اعطى فيه الضوء الاخضر ليتحمل كل كاتب مسؤولياته امام القانون مع احترام حرية الرأي والقول المسؤول وعليه فقد تحملت مسؤوليتي في الكتابة وفي ابداء الرأي في عدة مواضيع من بينها فترة محجوب بن علي التي قضاها على رأس قيادة الحرس الوطني واني اعتقد بدون مركبات انه قد يصعب على غيري تصوير هذه الحقيقة المرة لاني عايشته من قريب وقد كنت طيلة سنوات العمر اخاف ان افارق هذه الدنيا دون ابلاغ هذه الرسالة الى المجتمع حتى لا تتكرر مثل هذه المهازل وهذه الغلطات في تحميل المسؤولية لمن هو غير مؤهل لها وحتى يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب. والحمد لله ها قد بلغت فارتاح ضميري. وفي الختام اجدد شكري وتقديري لجريدة الصباح الغراء التي واكبت وتواكب التحولات وفي جميع الاصعدة من اجل انارة الرأي وتوضيح الحقيقية.