في مجلس العموم البريطاني وحيث كان سلفه توني بلير اعلن قبل ست سنوات انضمام بلاده للحرب على العراق لمطاردة ترسانة اسلحة الدمار الشامل العراقية التي باتت تهدد الامن والسلم العالميين خرج غولدن براون رئيس الحكومة البريطانية يزف للبريطانيين خبر عودة القوات العسكرية البريطانية من العراق خلال ستة اشهر ... صحيح ان الاعلان عن القرار لم يات تحت وقع قذف الاحذية كما هو الحال بالنسبة للرئيس الامريكي جورج بوش الذي كان يمني النفس بزيارة اخيرة الى العراق يحتفل فيها باكبر انجازاته في نشر الحرية والديموقراطية وفق مبدا الفوضى الخلاقة لبعث الشرق الاوسط الجديد قبل ان يجد نفسه في مواجهة اسوا اهانة يمكن للانسان ان يعرفها ناهيك عن زعيم اكبر دولة في العالم الا ان الواضح ان الانسحاب البريطاني من العراق لن يكون اقل اهانة من الانسحاب الامريكي . ولعل في تعمد براون عدم الاشارة الى القرار البريطاني بتاجيل فتح تحقيق رسمي في مدى شرعية قرار بريطانيا المشاركة في الحرب على العراق وربط أي خيار في هذا الاتجاه بعودة اخر جندي بريطاني من العراق ما يعكس من جانب اول غموض الموقف البريطاني وانسياقه المتسرع لاعلان قرار الحرب نزولا عند رغبة حليفه الامريكي وما يؤكد من جانب ثان الاصرار على منح توني بلير الذي اختار استباق الاحداث ومغادرة الساحة مبكرا صك البراءة حتى اشعار جديد.. والحقيقة انه مع كل يوم يمضي يتضح ان تمسك تلك القيادات التي شرعت لتلك الحرب بدءا من الرئيس بوش ومساعديه تشيني ورايس ورامسفيلد وبيرل ووولفويتز وغيرهم وصولا الى توني بلير وفريقه ممن يرددون اليوم بان الحرب خلصت العراق من الديكتاتورية واعادت شعبه الى طريق الديموقراطية لا يعدو ان يكون اكثرمن محاولة لانقاذ ماء الوجه بما يشبه تمسك الغريق بقشة النجاة ولاشك ان مسؤولية تلك الحرب بكل انعكاساتها الانسانية والتاريخية والسياسية والقضائية ستظل بالتاكيد تلاحق اصحابها... قد لا يشهد العالم قريبا وربما لا يشهد ابدا نورمبورغ ثانية خلال هذا القرن وقد يعتبر الكثيرون ان العودة لاثارة مسالة شرعية الحرب امر تجاوزته الاحداث ولا يمكن ان يغيرمن الواقع شيئا والحقيقة ان في الامرخطا ذلك ان تجاوز تلك النقطة او تجاهلها او نسيانها من شانه ان يمهد لتكرارها بما يلغي اهمية سيادة الشعوب في قرارات الشرعية الدولية ويجعل مصيرها خاضعا لرهانات الحسابات الخاطئة والاهواء ولعبة المصالح بكل ما تعنيه من مزايدات ومساومات... بالامس فقط قضت محكمة جرائم الحرب في رواندا بالسجن مدى الحياة لقائد الجيش الرواندي السابق ومعه عدد من كبار الضباط بتهمة الابادة الجماعية خلال تلك الحرب التي ذهب ضحيتها نحو ثمانمائة الف ضحية في اسوا حرب عرقية وذلك بعد مضي نحو عقد ونصف على تلك الحرب ولعل التاريخ يقول يوما كلمته بشان الحرب التي يرجح انها الت الى مقتل نحو ستمائة الف مدني في العراق او يكشف عن الحقائق الكثيرة المغيبة بشان اهدافها الحقيقية كما بشان العدد الحقيقي لضحاياها . وبرغم كل خطابات النصر التي ما انفك السياسيون البريطانيون يرددونها اليوم في كل المناسبات وبرغم الاصرار على تاكيد الدور السياسي والانساني والتاريخي الذي اضطلعت به القوات البريطانية في العراق فان كل ذلك لا يمكن ان يخفي فشل تلك القوات التي تترك البصرة وهي تغرق في الفقر والفوضى وانعدام الامن وقد تورطت في انتهاكات لا تقل فظاعة عن انتهاكات ابو غريب في العراق والامر طبعا لا يتوقف عند حدود نظرة معادية للحرب اللامشروعة ترفض القبول بكل التبريرات الوهمية التي ارتبطت بها ولكن ايضا بما عاشته وتعيشه الساحة السياسة البريطانية والقوى المعارضة للدور البريطاني في تلك الحرب.بل ولاشك ان في السجال المستمر بين حكومة حزب العمال وبين المعارضة التي ما انفكت تطالب باجراء تحقيق رسمي في قرار المشاركة في الحرب ما يؤكد الحصاد المهين لبريطانيا في العراق بما يعيد الى الذاكرة تجربتها التي ترفض الاستفادة منها في افغانستان . لقد جاء اعلان براون بدوره سحب قواته من العراق في اعقاب زيارة مفاجاة وسرية الى بغداد غداة تلك الزيارة المثيرة للرئيس بوش والتي لا يبدوان صورها قد تختفي سريعا من الذاكرة الدولية بما يمكن ان يجعل قرار الانسحاب البريطاني في صمت وبعيدا عن كل انواع الاثارة افضل من الانسحاب تحت وقع الاحذية سلاح الضعفاء في حرب سجلت اللجوء الى مختلف انواع الصناعة الحربية التي ابتكرتها المصانع الغربية ...