خاب أمل الاستعمار الفرنسي لما عمد إلى اقتراف أبشع جرائمه على الساقية يوم السبت 8 فيفري 1958 إذ عزم أن يكون عدوانه الغاشم هذا زجريا مستوفيا لأسباب الاجرام والانتقام في حق هذه القرية، فعن مكر وحشية تخير للقيام بجرمه هذا يوم سوقها الأسبوعية، يوم يتواجد فيها أهالي المنطقة الأصليين للتسوق بمعية اللاجئين الجزائريين والتجار الوافدين من جل مدن الولاية، فضرب بعنف ودمر بقسوة وقتل الكثير وتمارى في حماقته فأدرك الأطفال وهم في قاعة الدرس وبطش بهم. لعله لم يكن يتوقع أن هذه المجازفة الطائشة عجلت قرار التونسيين تأميم الأراضي واجلاء القوات الفرنسية من التراب الوطني وفوجئ بأن تجلت همجيته وافتضح أمره لدى الرأي العام الكوني وانقلب السحر على الساحر فالساقية التي كان الفرنسيون يبغون محقها بعثت من جديد عروسا فاتنة تحنت بدم الشهداء وكحلت عينيها ببارود القنابل. رغم فظاعتها، ليس من الحكمة بمكان، أن تحجب هذه الجريمة النكراء أحداثا دموية سابقة وأخرى لاحقة حصلت على الشريط الحدودي بين البلدين عانى ويلاتها التونسيون والجزائريون على حد السواء وكانت جميعها محاولات استعمارية يائسة لثني الشعبين عن المسير قدما في درب الحرية. فاللوحة الفنية الرائعة للكفاح المغاربي بغية التخلص من ربقة الاستعمار يعيبها تلف أي قطعة من فسيفساء التاريخ وان كانت بسيطة أو في حاشية الصورة بعيدة عن مركز الاهتمام الرئيسي. ففي حيدرة، ألم يسبق للاستعمار الفرنسي بالجزائر أن حدد أنيابه مستأثرا لجنوده يحث تتبع «الفلاقة» (السلف المعجمي للفظة الارهابيين»؟ حدث ذلك بداية سنة 1957 حوالي سنة قبل احداث الساقية وحوالي سنتين قبل اعلان الجمهورية الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس في سبتمبر 1958 حيث عين محمود الشريف وزيرا للتسلح والتموين. ومنذ الايام الاولى من استقلال البلاد كان أهل حيدرة يتكفلون بتموين الثوار الجزائريين ويوفرون لهم المأوى والامان مستحضرين الآية الكريمة: «والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة» فميسورو الحال منهم يتحملون بالتناوب نفقات الطعام وتوفير فضاءات الايواء والمرقد. وأما من قدر عليه رزقه من الاهالي فانه يتجند للقيام بالاشغال البدنية اللازمة لحسن استقبال المجاهدين وتوفير اسباب الراحة لهم مجتهدين في المزيد من أساليب كرم الضيافة التي تتحمل العبء الأوفر منها ربات البيوت وبناتهن وطيلة الضيافة لا يهدأ نشاط المضيفين الا لما يحين وقت الصلاة فترى الجميع يسعى بلهفة وخشوع الى الصلاة بإمامة رئيس الثوار تيمنا ببركة المجاهدين. واسترسلوا في تكريس هذا المد الكفاحي على خلفية وضع متفجر اذ ان العملية تتزامن غرب المنطقة مع الدوريات المتواصلة للجيش الفرنسي بالجزائر مستعينا بطائرات الاستكشاف نهارا وبالأضواء الكاشفة ليلا أما شرقها فيتواجد مئات افراد الجالية الفرنسية العاملين بمناجم المنطقة والذين كان يتحتم توخي الحذر ازاءهم هذا علاوة على بقايا ثكنات الجيش الفرنسي بالبلاد التونسية اذ ان الجيش الفرنسي لم يغادر مدينة الكاف مثلا الا في صائفة 1957، هذه الظروف العصيبة ألقت بسكان المنطقة والثوار بين شقي الرحا لكنهم ضمدوا وتواصوا بالتكتم، تكتم العشاق، عشاق الحرية. ليلة المعركة نزل الثوار ضيوفا على علي البضيافي وذويه في منزلهم الكائن على مرمى الحجر من الحدود التونسية الجزائرية حيث سهل على عسكر الاستعمار رصدهم واكتشاف أمرهم فلم يتردد في مهاجمتهم ففي الصباح الباكر عبرت المصفحات الفرنسية الحدود التونسية فاتحة النار في كل الاتجاهات بوحشية جلية تصدى لها نفر من الثوار الذين توزعوا بحكمة وانهمكوا في مشاغبة الدبابات ببسالة اسطورية فاسحين المجال لزملائهم للملاذ الى الاودية القريبة والغابة المحاذية والمنازل المجاورة وفي غمرة لهيب المعركة وأزيز الرصاص المتبادل وهلع السكان وصياح المصابين واستنفار الماشية ابلت حرائر بلادي البلاء البطولي. هن نسوة مقصورات في البيوت، شريفا، لا يخرجن من بيوتهن الا لداع وجيه، اليوم هلعن نحو الثوار الذين لاذوا اليهن وبسرعة فائقة مددنهم بالثياب النسوة قصد التمويه على ذي البطش الفرنسي مطلقات عاصفة من الزغاريد على ابطال الجزائر. سقط ثمانية شهداء في ساحة الوغى، اما الثامن منهم فقد عز على الفرنسيين التخلص منه إذ ربط بعمامته ذراعه النازفة وتأزر بردائه الصوفي وأظهر براعة قتالية فائقة وتقنيات عالية في الاحتماء والتحرك ولم يتسن للعسكر ادراكه الا بعد نفاد ذخيرته، وامعانا منه في البربرية انهمك الجيش الفرنسي بجبن وفجور في تسطيح جماجم الضحايا الواحدة تلو الاخرى بالدبابات ثم عاد من حيث تسلل. أما موكب دفن الشهداء فقد تم في اعصار من دموع الرجال والاطفال ورجال الحرس التونسي والمجاهدين الجزائريين، وكانت حسرة سكان روس العيون المنطقة الجزائرية المحاذية أعظم اذ استحال عليهم عبور الحدود المغلقة لحضور جنازة ذويهم. فحيدرة هي أيضا عروس بكر تطيبت بدم الشهداء ووشمت جبينها بآثار سلاسل الدبابات على سهولها الخصبة الطاهرة وزفت الى المغرب العربي لكن عرسها لم يشهر أبدا! لعل من أسباب السهو، عن هذه الحادثة أن المعركة حصلت وتونس مازالت ملكية ومنشغلة بتأسيس الدولة فكانت الحادثة بمثابة ولادة مبكرة جدا تعذر فيها نجاة المولود بخلاف أحداث الساقية فقد دارت في عهد النظام الجمهوري وقبل الاحتفال بالذكرى الاولى لها ببضعة اشهر اعلنت الجمهورية الجزائرية المؤقتة فاصبحت الساقية رضيعة جمهوريتين وضمت في حجرها شهدائها الابرار خالدين فيها ابدا.