سناقرية: المساكني «إضافة للترجي حتى لو لعب بفوطة»    عاجل/ حركة النهضة تصدر هذا البلاغ الهام للرأي العام وتكشف..    عاجل/ محكمة المحاسبات تفجرها وهذا ما كشفته..    زلزال يهز هذه المنطقة..وهذه حصيلة الضحايا..خبر_عاجل    الترجي الرياضي يعلن..#خبر_عاجل    طقس اليوم..أمطار بهذه المناطق..#خبر_عاجل    مواعيد التأشيرات والرحلات للحجّاج التونسيين    الخير جاي لتونس: ديسمبر يبدأ بالغيث النافع    10 سنوات سجنا لشاب نفّذ براكاج ضدّ سائق تاكسي في المروج    عاجل/ حادثة حرق 5 سيارات بجبل الجلود..تفاصيل ومعطيات جديدة..    وزيرة الشؤون الثقافية تكشف ملامح الإصلاح الشامل للقطاع    خلال اجتماعه باندية الرابطة المحترفة الثانية.. وزير الشباب والرياضة يعلن التعهد بالقسط الأول للمنحة بعنوان الموسم الرياضي 2025-2026 وصرفها أواخر شهر ديسمبر القادم.    للمرة الأولى.. زراعة قرنية "ثلاثية الأبعاد" في إنسان    كأس ديفيز للتنس: تأهل المنتخب الإسباني للدور نصف النهائي    "مفاجأة" في خطة إنهاء حرب أوكرانيا.. ضمانات غير مسبوقة    ممثّل عُمّال الحضائر جمال الزموري: القرار الأخير لتسوية الملفّ خطوة مهمّة... لكن    مكسيكية تفوز بلقب "ملكة جمال الكون" 2025    "تعزيز دور للشباب في استراتيجيات التنوع البيولوجي، المناصرة المناخية والحفاظ على الطبيعة "محور ورشة بالشراكة بين الصندوق العالمي للطبيعة ووزارة البيئة    في مناقشة مشروع ميزانية وزارة الشؤون الثقافية: انتقادات لضعف أداء القطاع الثقافي وتأخر البرامج والمشاريع    المنتدى المتوسطي للذكاء الاصطناعي: خطوة لتعزيز التعاون الإقليمي وبناء ريادة تكنولوجية في المنطقة    وزير التربية : الإصلاح التربوي في تونس سيقوده المجلس الأعلى للتربية    لبنان.. تحديد موعد محاكمة الفنان فضل شاكر أمام المحكمة العسكرية    إيران: الوكالة الذرية خرقت التزاماتها واتفاق القاهرة بات بلا قيمة    نابل الهوارية: لهذه الأسباب زراعة الكاكاوية... مهدّدة    في 1550 عملية مداهمة: حجز بضاعة ب30 مليارا في 30 يوما فقط    المعلّق الذي شغل الناس .. عامر عبد الله موهبة إماراتية بروح تونسية    خطبة الجمعة: الإحسان إلى ذوي القربى    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    الضريبة في الإسلام رافد هام من روافد التنمية    السبت مفتتح شهر جمادي الثانية 1447 هجري..    عاجل: المسرحية التونسية'عطيل وبعد' تحصد 3 جوائز في مهرجان الأردن المسرحي    JMC VIGUS ب 70 مليون : البيك آب اللي كسّر الأسعار في تونس    الدكتور محمد جماعة يحصد جائزة الباحث الناشئ – المسار الإقليمي ضمن جائزة الحسين لأبحاث السرطان 2025    الشتاء والماكلة: وقتاش ''لازمك تتعشى'' بش تحافظ على صحتك ؟    ضوء خفي يهدد قلبك.. دراسة تكشف خطرا أثناء النوم..!    المؤرخ عبد الجليل التميمي في حوار مع وات: "من الظلم ألا يقع الاهتمام بمن بنوا هذه الأمة، وأن تقبر شهاداتهم بموتهم"    عاجل/ شخص يضرم النار في خمس سيارات ويحاول حرق السادسة..    قهوة مصنوعة من الصراصير تثير الجدل    عاجل : خبر سار لصغار الفلاحين التونسيين ...اجراءات جديدة و هذه أهمها    كأس العالم 2026: النتائج الكاملة لقرعة الملحق الأوروبي    كأس العرب: التركيبة الكاملة لطاقم تحكيم مواجهة المنتخب الوطني في المباراة الإفتتاحية    يحي الفخراني في تونس    البنك الدولي يؤكد استعداده لدعم تونس في مجال المياه والأمن المائي    قبلي: انطلاق فعاليات شهر التمور من المنتج الى المستهلك بالعاصمة بمشاركة 40 موزعا من قبلي وتوزر    الإعلان عن قائمة الأعمال المشاركة في مسابقة قرطاج للسينما الواعدة    أشرف حكيمي يفوز بجائزة أفضل لاعب كرة قدم أفريقي لسنة 2025    كميات الأمطار المسجلة خلال 24 ساعة    تحذير: انخفاض كبير في درجات الحرارة يوم السبت    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025) – ميدالية برونزية لميساء البريكي في منافسات الجوجوتسو لوزن تحت 57 كلغ    عودة أيام الصيانة هيونداي «Hyundai Care Days» : ألفا هيونداي موتور وتوتال إنرجيز يجددان التزامهما بحملة ما بعد البيع المميزة من 17 إلى 28 نوفمبر 2025    حيلة زوجان حققا تخفيض مذهل في فاتورة الطاقة    ترامب يعلن عن موعد ومكان لقائه مع 'خصمه اللدود' زهران ممداني    الدكتور ذاكر لهيذب: ''ملعقة زيت الزيتون... درعك الأوّل ضد الجلطات''    من 28 نقطة.. تفاصيل خطة واشنطن للسلام بين روسيا وأوكرانيا    اريانة:جلسة عمل حول النظر في أعمال اللجنة الجهوية لمتابعة تطور الأسعار وضمان انتظام التزويد    طقس الخميس: أمطار بالجنوب الشرقي ثم المناطق الساحلية الشمالية    لماذا سمي جمادى الثاني؟ أصل التسمية والأحداث التاريخية    يفتتحه فيلم 'صوت هند رجب': مهرجان الدوحة للأفلام ينطلق غداً بمشاركة 97 فيلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مساهمة تونس في ثورة التحرير الجزائرية (1954- 1958) 2-3
دراسة
نشر في الصباح يوم 12 - 09 - 2007

تنشر «الصباح» اليوم الجزء الثاني من الدراسة القيمة للأستاذ الجامعي محمد لطفي الشايبي حول مساهمة تونس في ثورة التحرير الجزائرية (1954-1958):
II - الدعم التونسي يصمد ضدّ المساومة والتهديد
إذا شكّلت البلاد التونسية بدون منازع القاعدة الثابتة والسند القوي والملجأ الآمن للثورة الجزائرية وهذا بطبيعة الحال أنجرّ عنه تهديدات فرنسية مستمرّة إلى حدّ التلويح بإعادة احتلال البلاد التونسية. وشكّلت حكومات موريس بورجس مونوري (الراديكالي) (13 جوان- 16 أكتوبر 1957) وفليكس قيار (الراديكالي) (6 نوفمبر 1957 - 16 أفريل 1958) وبيار فليملان (الحركة الجمهورية الشعبية) (ماي 1958) سياسة التهديد تارة والترغيب أخرى. ولم تكن حادثة ساقية سيدي يوسف يوم 8 فيفري 1958 الأولى التي استهدفت حرمة التراب التونسي بل كانت تمثل الانتهاك الرابع والثمانون للسيادة الوطنية منذ الاستقلال. ذلك أن السلط العسكرية الفرنسية لم تقبل عملية تجسيم الاستقلال التونسي والمتمثل بالخصوص في منع الوحدات العسكرية المرابطة بالتراب التونسي من حريّة التنقل والتصرّف. لذا عملت هذه السّلط على عدم احترام الحدود الفاصلة بين البلاد التونسية والجزائرية. ولم يُخفِ الجنرال Aumeran عند كتابة مذكرّاته الإشارة إلى "كون ما حمل فرنسا على احتلال تونس والمغرب الأقصى لازال قائما" أي حماية مستعمرتها بالجزائر.

لهذه الأسباب، رفضت الحكومة التونسية إمضاء اتفاقية "الاستقلال المتكافل" Interdépendance مع السلطة الفرنسية طالما لم يحصل جلاء القوات العسكرية من التراب التونسي وطالما لم تصبح الدّولة التونسية كمثيلتها الفرنسية حرّة وذات سيادة، لذا كان من العسير بل من المستحيل التوفيق بين الموقفيْن التونسي المدعّم للثورة الجزائرية والفرنسي الرّافض حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. وترتب عن ذلك تأزم العلاقات بين الدّولة الفرنسية والحكومة التونسية وأرادت الدّولة الفرنسية فرض سياستها ضاربة بعرض الحائط القانون الدّولي واتفاقية استقلال البلاد التونسية. فتعدّدت انتهاكاتها للتراب التونسي بتعلة ملاحقة المجاهدين الجزائريّين وضرب معاقلهم على طول الحدود التونسية-الجزائرية. فلنذكر البعض منها:
ففي يوم 16 أكتوبر 1956، ذلك اليوم الذي كان مبرمجا في إطار اتفاقية الإستقلال المبرمة بين الدّولة الفرنسية والحكومة التونسية أن يتسلم فيه الطرف التونسي مصالح الأمن الترابي D.S.T. التي تراقب الحدود، حصل اشتباك عنيف (من باب الصّدفة؟) بين وحدة من الجيش الفرنسي (1-60ème RI) ومجموعة من المجاهدين الجزائريين يقودهم سي عبّاس في الموقع الكائن بين بوشبكة والقصرين، حذو مدينة تالة. وأسفر هذا الإشتباك على 14 قتلى و18 جريحا من الجهة الفرنسية و5 شهداء من الجهة الجزائريّة. وتدخلت وحدات نجدة فرنسيّة من التراب الجزائري لملاحقة المجاهدين الجزائريين وانهالت على السكّان التونسيين تفتيشا واضطهادًا وتمشيطا في مشيختيْ فجّ حسين وحيدرة من معتمديّة فريانة. وكان ردّ الحكومة التونسية على لسان رئيسها الحبيب بورقيبة ثابتا وجليّا حيث ورد في خطاب 20 أكتوبر 1956 ما يلي: "إنّ السّلطات الفرنسية يجب عليها أن تفهم بكونها مطالبة من خلال احترام كلّ جزائري موجود ببلدنا السّيادة التونسية، وأنّ تونس لن تسمح لفرنسا باستعمال ترابها كنقطة انطلاق في الحرب التي تشنها في الجزائر، وإنّ على فرنسا أن تعلم بأنّ جيشها المرابط بتونس لا يمكن بأيّ حال أن ينسّق أيّة عمليّة مع الجيش الفرنسي المتمركز بالجزائر".
وفي يوم 22 أكتوبر من نفس السّنة أي في نفس اليوم الذي أقدمت فيه السّلطة العسكرية الفرنسية بالجزائر على تنفيذ أشنع عمليّة قرصنة جوية شهدها تاريخ تصفية الإستعمار بالمغرب العربي والمتمثلة في إنزال عنوة الطائرة المقلة لقيادة جبهة التحرير الجزائري والمتوجّهة من المغرب الأقصى نحو تونس وأسْر الوفد الجزائري المتكوّن من أحمد بن بلة وبو ضياف وخيضروآيت أحمد ولشرف... في ذلك اليوم اخترقت وحدات من الجيش الفرنسي الحدود التونسية في الجنوب وحاولت الاستحواذ على مكتب المراقبة ببن قردان. وبعد يومين أي يوم 24 أكتوبر، حصلت إشتباكات بين السكّان التونسيين وعناصر من الجيش الفرنسي في الشمال التي أرادت التنقل بدون سابق إعلام بين بنزرت وعين دراهم، ولكنّ السّدود التي أنجزت لتعطيل ومراقبة تنقلات الجيش الفرنسي حالت دون ذلك.
وأمام موجة الغضب الشعبية وتعبئة إمكانيّات الدّولة التونسية لإيقاف انتهاكات الجيش الفرنسي، سارعت حكومة الإشتراكي قي مُوليGuy Mollet إلى تهدئة الوضع. لكنّ الجيش الاستعماري واصل عمليّاته الاستفزازية، وفي غضون شهر نوفمبر 1956 بادرت السّلطات العسكريّة الفرنسية بتونس وبدون إعلام الحكومة التونسية ولا حتى الفرنسية (بباريس) بتركيب أجهزة ردار على مرتفعات بئر دراسن لمراقبة تحرّكات المجاهدين الجزائريّين. فعبّر السكّان عن سخطهم وسقط شهيديْن والكثير من الجرحى، الشيء الذي أجبر رئيس الحكومة الفرنسيّة قي مولي على إعطاء الإذن لإزالة محطة المراقبة السّالفة الذكر.
ولم تنجح المساعي السّياسية لتقريب وجهتيْ نظر الدّولة التونسية والفرنسية بالرّغم ممّا بذله الرّئيس بورقيبة من سعْي إلى إقناع الدّولة الفرنسية بوجوب التفاوض مع جبهة التحرير الجزائري26. ففي غضون شهر فيفري 1957، أدّى السيّد موريس فور كاتب الدّولة الفرنسي المكلف بالشؤون التونسية والمغربية زيارة إلى تونس واشترط حياد الدّولة التونسية من القضيّة الجزائرية حتى تتحصّل على المساعدة المالية الفرنسية. ولكن إصرار الحكومة التونسية على موقفها المساند للثورة الجزائرية عجّل بإيقاف المساعدة المالية وإرجائها وكان مبلغها حسب الإتفاقية التي حصلت يوم 20 أفريل ملياريْن من الفرنكات. وتمّ قرار إيقاف هذه المساعدة يوم 20 ماي 1957.
وليس من الغريب أن تتوتر من جديد العلاقات بين الدّولة الفرنسية والحكومة التونسية. ففي هذا الشهر بالذات (ماي 1957)، وصل إلى تونس عدد كبير من اللاّجئين الجزائريّين الذين كانت تطاردهم وحدات الجيش الفرنسي مخلفة القتل والدّمار بين السكّان. ولاحَقَتْهم هذه الوحدات إلى حدود مشيختيْ أولا مسلم وخمارية، فاعترضتهم وحدات من الجيش والحرس الوطني التونسيّيْن وحصل اشتباك ذهب ضحيّته الشهيد خميّس الحجري الكاتب العام بوزارة الشؤون الخارجية التونسية وتسعة جنود تونسيين.
وبداية من سبتمبر 1957، صارت تهديدات القيادة العامّة للجيش الفرنسي بالجزائر أكثر خطورة من ذي قبل، فقد لاحظ الجنرال Salan في مذكّراته "أنّ المعركة من أجل الحفاظ على الجزائر تدور حول الجبهة التونسية". وتحقيقا لرغبة اللوبي الإستعماري وضغوط القيادة العامّة للجيش، وافقت الحكومة الفرنسية على إعطاء الإذن في إطار حق ملاحقة المجاهدين بالتراب التونسي إلى عمق 25 كلم. وفي يوم 6 سبتمبر، أصدر وزير الحرب أندري موريس تعليماته إلى الجنرال Gambiez القائد العام للجيش الفرنسي بتونس للتحوّل إلى الجزائر لتنسيق العمل مع الجنرال Salan وتمّت مناقشة "ورقة عمل إعادة الإحتلال أو المراقبة المؤقتة للتراب التونسي" "Reprise de contrôle temporaire du territoire tunisien" والهدف المسطّر لهذه الورقة هو تدمير قواعد جبهة التحرير الجزائري المتمركزة بالبلاد التونسية ومراقبة القوى الحيّة للبلاد وحماية الرّعايا الفرنسيّين. وأثناء يوميْ 1 و2 أكتوبر 1957، انتهزت القيادة العامّة للجيش الفرنسي سقوط حكومة بورجس مونوري Bourgès Maunoury بإعطاء أوامرها لضرب قرية ساقية سيدي يوسف بالمدفعيّة الثقيلة، سقطت ضحيّة لهذا الإعتداء طفلة تونسيّة وجُرح 10 آخرين جلهم من الأطفال، فردّت الحكومة التونسية على هذا الإعتداء بتنظيم اجتماعات عامة حاشدة وإعلان الإضراب العام يوم 4 أكتوبر. كذلك تمّ طرد بعض الفرنسيين المستقرّين بالكاف واستدعت الحكومة التونسية سفيرها بفرنسا27 .
وتتعدّد الشهادات الشفوية والوثائق الأرشيفية التي تؤكّد صمود الدّعم التونسي للثورة الجزائرية من بينها نذكر شهادة المجاهد براهمي محمّد العربي (الشريعة، ولاية تبسة) الذي طرق في "الملتقى الأوّل حول دور مناطق الحدود إبّان الثورة التحريرية" موضوع "جيش التحرير ومعارك عبور خطيْ شال وموريس الملتهبة" محيّيا الشعب التونسي الذي وقف مع شقيقه الجزائري في خندق واحد خلال المواجهة الشرسة للإستعمار الفرنسي (ص 86) وشهادة المناضل الديبلوماسي (المتقاعد حاليّا) عبد الجليل المهيري الذي كُلف من طرف الحكومة التونسية يوم 15 أوت 1956 بأداء مأمورية تنسيقية بالقاهرة بين القيادة الجزائرية للجبهة والسّلطة التونسية. ثمّ عيّن كاتبا أوّلا بالسّفارة التونسية بروما مكلفًا بالتمثيلية الجزائرية بأروبا وأشرف على عمليّة تزويد جبهة التحرير بالسّلاح انطلاقا من ميناء جنوة الإيطالي 28.
وفي مستهل سنة 1958 وبالتحديد يوم 2 جانفي اخترقت وحدة عسكريّة فرنسية الحدود التونسية في منطقة الرديّف ووصلت إلى عمق 8 كلم وطوّقت قرية "فمّ الخنقة" وأسّرت 10 تونسيّين مخلفة 3 شهداء و4 جرحى. وفي يوم 11 جانفي حصل اشتباك بين وحدات تابعة للجيش الفرنسي ومجموعة من المجاهدين بين جبل الواسطة وجبل اللحوم في منطقة السّاقية خلف عدّة قتلى (15 جندي) و4 أسرى في الجانب الفرنسي. وتحسّبًا لردّ الفعل الفرنسي نفت السّلطة التونسية وقوع هذا الإشتباك في الأراضي التونسية ولكن الجنرال Salan حمّل الحكومة التونسية مسؤوليّتها في وقوع هذا الحادث، ووجّه رئيس الحكومة الفرنسية الراديكالي فليكس قيار تهديدًا صريحًا إلى الرّئيس بورقيبة بإيفاد رئيس ديوانه والجنرال Buchalet طالبًا تسليم الأربعة الجنود الذين وقعوا في قبضة جبهة التحرير فرفض الرّئيس بورقيبة قبول الجنرال Buchalet.
ويبدو أنّ الرّئيس بورقيبة أراد توظيف إطلاق سراح الأربع أسْرى جنود فرنسيين لقبول مبدإ التفاوض بين السّلطة الفرنسية وجمعيّة الهلال الأحمر الجزائري وطرح مشكلة الأسْرى الجزائريّين بالجزائر وفرنسا ووضع حدّ للإعدامات التي تنفذها السّلطة العسكرية بالجزائر في عمليّات تمشيطها للمدن والقرى الجزائرية. وبالرّغم من سياسة الرّفض المنتهجة من الطرف الفرنسي للدّخول في مفاوضات مع جبهة التحرير الجزائري على أساس حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، واصل الرّئيس بورقيبة جهوده لإقناع الرّأي العام الفرنسي الحرّ بجدوى التفاوض وإيجاد حلّ سياسي للقضيّة الجزائرية. وفي هذا السّياق ساند وشجّع حركة الفرنسيين الأحرار بتونس التي ينشطها الدّكتورBurnet للنضال من أجل التعاون الحرّ بين فرنسا وشمال إفريقيا (باعتبار الجزائر). لكن هذه المساعي لم تغيّر قيد أنملة من الموقف الفرنسي الرّسمي الذي واصل انتهاكه للتراب التونسي.
وإثر العمليات الواسعة التي نفذتها الوحدات العسكرية الفرنسية في جبل الطرْف والتي ألحقت خسائر بشريّة ومادية في جيش التحرير الجزائري، أسقطت المدفعيّة التونسية طائرة حربيّة فرنسية يوم 30 جانفي 1958 فكانت الحادثة التي حدّدت قرار الإعتداء الآثم على قرية ساقية سيدي يوسف يوم 8 فيفري 1958. والسّؤال الذي يُطرح هنا لماذا السّاقية بالتحديد؟
يعتبر الجنرال Jouhaux أنّ السّاقية إضافة إلى غار الدّماء تمثل مركز العبور والتسرّب لوحدات المجاهدين إلى ولايتيْ 2 و3، كذلك تعدّ قاعدة الانطلاق للفيْلق 3 لولاية سوق أهراس بالنسبة للعمليّات بين الحدود والخطوط المُكهربة. ففي السّاقية، كان للمجاهدين محلات إيواء منها منزل الحراسة الغابية الذي يقتسم سكناه الجيش والحرس الوطني التونسيّيْن.
وعلى بعد 6 كلم من القرية في منجم مهجور، استقرّت كتيبة من المجاهدين ومكتب الهيئة العسكريّة لجبهة التحرير. كذلك كانت السّاقية تشمل 3 مواقع للمدفعيّة المضادة للطائرات (D.C.A.) : إثنان في السّاحة الوسطى والثالث في مركز الدّيوانة، وعلى طول حدود المنجم المهجور، نجد 6 مواقع للرّماية يحرسها جنود جيش التحرير الجزائري.
ويمكن الجزم اليوم بأنّ عمليّة الاعتداء كانت من مبادرات السّلطة العسكريّة الفرنسية بالجزائر، فقد أكّد الجنرالSalan في مذكّراته ما يلي: " لو لم تكن للثورة (الجزائرية) إمكانية التسليح والتدريب في تونس لانهارت. إنّ بورقيبة لا يكتفي بمساندتها بل يشجّعها ويدفعها".
كان يوم الاعتداء يوم سوق أسبوعيّة ازدحم فيه الوافدون من سكّان المداشر المجاورة والفلاحين مع عدد هامّ من اللاّجئين الجزائريّين الذين قدّموا لتسلم بعض المساعدات من الهلال الأحمر التونسي والصّليب الأحمر الدّولي.
وكانت الفاجعة بالنسبة لهؤلاء المدنيّين العزل عندما داهمت القرية حوالي السّاعة الحادية عشرة أسراب من الطائرات القاذفة (16) والمطاردة (4) وراحت تدكّها دكّا واستهدف القصف دار المندوبية (المعتمدية) والمدرسة الإبتدائية وغيرها من المباني الحكومية ومئات المنازل فيما كانت المطاردات تلاحق المدنيين العزل الفارين بأرواحهم بعيدا عن القرية. تواصل القصف باستمرار إلى حدود منتصف النهار وكان ذلك كافيا لتحويل جلّ القرية والمنجم إلى خراب وقد بلغ عدد القتلى 68 قتيلا منهم 12 طفلا أغلبهم من تلامذة المدرسة الإبتدائية و9 نساء وعون من الجمارك فيما بلغ عدد الجرحى 87.
أمّا الخسائر المادية فتمثلت في تحطيم 5 سيّارات عسكرية مدنية منها شاحنتا الصّليب الأحمر الدّولي والهلال الأحمر التونسي.
تحطيم المباني العمومية التالية: دار المندوبية، مركز الحرس الوطني، مركز الجمارك، إدارة البريد، المدرسة الإبتدائية، إدارة الغابات وإدارة المنجم. تحطيم 43 دكانا و97 مسكنا.
وقد عجّلت انعكاسات هذا العدوان الآثم للسّلطة العسكرية الفرنسية بالجزائر لا بانهيار الثورة الجزائرية وإضعاف التآزر التونسي-الجزائري كما كان ينتظره اللّوبي الاستعماري ولكن بانهيار الجمهوريّة الرّابعة الفرنسية.
- يتبع -
الهوامش
26 - أنظر: خطاب: وساطة تونس لإنهاء الحرب في الجزائر تنبع من تجاربها في الكفاح (تونس 22 نوفمبر 1957).
27 - أنظر على سبيل المثال:
Grimaud (Nicole): La Tunisie à la recherche de sa sécurité. Paris, P.U.F., 1995, pp. 77 à 89.
28 - أنظر تسجيله بالمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية: وحدة التاريخ الشفوي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.